تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
المعانى الحضارية للحج «2»
جعل الله سبحانه وتعالى الحج محققا لكثير من المقاصد والمنافع الدينية والدنيوية، فيتحقق بهذه العبادة العظيمية أشمل وأكمل معانى العبادة والعمران، فقد ساق الله الناس إلى هذا البلد المبارك ليعمروا هذه البقعة المباركة بكل خير ومنفعة دنيوية وأخروية، وقد كانت هذه البقعة واديًا صحراويا جافا غير ذى زرع، لكن الله استجاب لدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام حين دعا ربه فقال: «رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» [إبراهيم: 37] فهوت إليه الأفئدة والقلوب، وجمع الله الناس عليه، وارتبطت فيه العبادة والتقرب إلى الله باكتساب الرزق والسعى فى الأرض، كما قال الله تعالى فى المناسك: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُم» [البقرة: 198] وذلك حتى يترسخ فى أذهان المسلمين أن عمران الأرض، وطلب الرزق من فضل الله، كلها تجليات لتحقيق مراد الله من وجودنا فى هذه الدنيا، وكلها صور واعتبارات وتجليات متعددة لمفهوم العبادة الشامل وهو التقرب إليه سبحانه وتعالى بكل ما يحب ويرضى فى بيوت الله أو فى عموم الأرض فالمسلم عابد لله تعالى على كل أحواله.
وقد أفاض الله على هذه الأرض المباركة من معانى الأمن والسكينة ما جعل القلوب والأفئدة تهفو إليها، وتحقق فيها قوله تعالى: «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا» [البقرة: 125] وأمر عباده المؤمنين بالتبعد بالحفاظ على المن والأمان فيه، حتى جعله خبرًا واقعًا لا شك فيه، فقال سبحانه: «وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا» [آل عمران: 97] ، والمفسرون على أن هذا أمر لا خبر، والأمان هو منطلق الحضارة والعمران، فهيأ الله لهذه البقعة المباركة كل الأسباب لتتحقق فيها مركزية الحضارة الإسلامية، وجعلها محل الشعائر التى تجمع هذه الأمة، بكل أجناسها وثقافاتها، وتنصهر وتذوب فيها كل الاختلافات بينها، لتصير أمة واحدة كالجسد الواحد.
والقرآن الكريم يدعو هذه الأمة بصريح العبارة إلى أن يكون موسم الحج جامعًا لمظاهر المنفعة الدنيوية والأخروية التى لا تتجلى إلا فى هذه العبادة، فيقول الحق سبحانه: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ» [الحج: 28] فهى منفعة عامة، تشمل الفقراء والمساكين، حتى تكون مظهرًا من مظاهر البر والإحسان، ومضرب المثل فى معنى التكافل والتراحم بين الناس.
ومما يرتبط بهذا المعنى العظيم من العمران واكتساب المنافع ذلك التعارف الذى ينشأ بين هؤلاء الناس، الذين تجمعهم عقيدة واحدة، وملة واحدة، لكنهم من أقطار وبلاد شتى، وهذا الموسم هو فرصة للتلاقى بين تلك الثقافات المختلفة، والترابط بين أبناء تلك الأمة المترامية الأطراف، وتعزيز أواصر المحبة والإخاء والتعايش، وتلك الغايات الحضارية لا تتأتى إلا فى مثل ذلك الاجتماع الروحي، الذى تصفو فيه النفوس، وتزكو الأرواح، فيكون فى شهود الحج فرصة لجمع القلوب والعقول، وظهور أخلاق التسامح والسلام.
وأما المنافع الروحية فهى من أجلِّ المنافع التى تتجلى فيها روح هذه العبادة، ومقاصدها الكبرى، فإن الله سبحانه لما أراد أن يطهر عباده من دنس الذنوب والمعاصى جمعهم فى هذه البقعة الطاهرة، وألبسهم ثوب الإخلاص، وأمرهم أن يتخلَّوا عن قبائح الصفات ظاهرًا وباطنًا، ويتحلَّوا بكل طاعة وخير وقربة، فقال جل جلاله: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِى الْأَلْبَاب» [البقرة: 197] فهذه الآية جامعة فى ترك كل ما يخل بالعبودية لله، وترك الانشغال بالمعاصى والسعى فى كل خير ومرضاة لله جل وعلا، ليتحقق له وعد المغفرة كما أخبر به سيدنا رسول الله فيما رواه البخارى عن أبى هريرة أنه قال: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه».
إن الحج مدرسة إيمانية يجمع فيها المسلم نفسه على ربه، فيعمر قلبه وروحه بذكر الله، ويعمر وقته بفضائل الأعمال، فتتهذب أخلاقه، ويتأدب بآداب الإسلام فى تعامله مع خلق الله جميعًا، حتى مع الشجر الذى حرم الله عليه قطعه، والحيوانات التى حرم الله عليه صيدها، ولا يدفعه لذلك إلا تعظيم حرمات الله الذى أرشده الله إليه بقوله: «ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّه» [الحج: 30] فهو يلتمس ما عند الله من الخير، ولا يتعدى حرمات الله.
لا شك أن تلك المشاهد والمنافع المتعددة التى يزخر بها ذلك الموسم الإيمانى لا تقتصر آثارها وتجلياتها على الحاضرين لها فقط، وإنما تعم تلك التنزلات والرحمات كل المسلمين من أهل الإيمان، الذين يسعون جاهدين وإن قصرت بهم استطاعتهم عن إدراك هذه الشعيرة فإنهم يشاركون فى تلك الرابطة الروحية التى تسَع كل من جرَّد قلبه وروحه لله سبحانه وتعالى، وأن الكل يجمعهم فى أيام هذا الموسم توجههم بالدعاء والضراعة التامة إلى الله، ويسعى كل مسلم أن يصيب بأخلاقه وآدابه وعبادته بعضًا مما يجب على أهل هذه المناسك، فشرع الله الأضحية مشاركة لهم فى أعمال الهدى والنحر، والتعاون والتكافل، ومظاهر العبادة التى تجتمع عليها هذه الأمة فى يوم عرفة ويوم النحر، لتصير أمة واحدة كما أراد لها ربها سبحانه وتعالى، يجمع الله لها منافع الدنيا والآخرة، ويفتح لها أبواب الفضل والذكر والشكر، لتكون سلمًا وسلامًا للعالمين جميعًا.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية