تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د.شوقى علام > المعانى الحضارية لفريضة الحج

المعانى الحضارية لفريضة الحج

إن جوهر الدين الإسلامى الخاتم يقوم على الاستسلام لأوامر الله، والوقوف على حقيقة مراده فى هذا الكون، وذلك من أجل تحقيق العبودية الحقة لله جل وعلا، ولذلك قامت الشريعة على عدد من الأركان التى ترسخ هذا المعنى فى وجدان الإنسان المسلم، حتى تتم له العبودية الكاملة، ويتحقق بالمعانى والأسرار الربانية لتلك العبادات، وأول ما يدفعه إلى القيام بذلك عقيدة راسخة، وقلب مطمئن، عامر بالإيمان واليقين، فيتحول اعتقاده إلى رؤية واضحة ينطلق منها فى تعامله مع ربه ومع نفسه ومع الخلق، فيثمر ذلك فى نفسه سلوكًا قويمًا، ينطبع فيه أولًا، ويؤثر فى من حوله ثانيًا، فينشأ من أثر ذلك مجتمع يمتلك قيمًا حضارية رفيعة.

 

والشعائر الإسلامية ترسخ فى الفرد والمجتمع المسلم سلوكًا ينطلق من رؤية لها أبعادها الحضارية، وقيمها الكبرى، ومن ذلك شعيرة الحج، الركن الخامس من أركان الإسلام، التى هى تجلٍّ للمقاصد الإلهية من الرسالة الخاتمة، والحج أعظمها دلالة وارتباطًا برؤية المسلم لهذا الوجود، ولمقاصد الاجتماع البشري، لأنه الركن المعبر عن الرؤية الجامعة للمسلمين.

تتعدد المقاصد والمعانى الحضارية الكبرى التى تتجلى فى شعيرة الحج، وأول تلك المعانى وأعظمها أن يتمثل الجميع فى تلك العبادة مقصدًا واحدًا يتسامى عن الأعراق والأجناس والمذاهب والأفكار، وأبرز الدلالات على ذلك تكرار الخطاب الإلهى فى تلك الشعيرة أو ما يتعلق بها بوصف الإنسانية، بدءًا من الكلام عن البيت المعمور الذى يقول فيه الله سبحانه: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ» [آل عمران: 96] ثم بالنداء الجامع الذى أمر الله به سيدنا إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى: «..وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» [الحج: 27] ليكون دلالة على وحدة الرسالة الإلهية الجامعة، إذ هو نداء عام لمقصود واحد، لا يمكن تأويله أو تفسيره بوجوه متعددة، أو طبقًا لرؤىً خاصة، ومن هنا كانت إجابة الخلق التى ألهمها الله الناس وعلمهم إياها هى التلبية، وهى لفظ معبر عن كل معانى الإذعان والانقياد لله سبحانه وتعالى، وقصده والتوجه إليه، دون اعتبار وصف زائد عن الإنسانية، إلا إفراد الله وحده بالعبودية. والمعنى الثانى الذى يتجلى فى تلك الشعيرة، هو مفهوم الأمان بكل أبعاده، فالله سبحانه قد بين لنا مقاصد بناء هذا البيت المعظم، فقال تعالى: «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا» [البقرة: 125] فبعد جمع الناس فى صعيد واحد، وعلى غاية واحدة، ومتحققين بوصف واحد- بعد توحيدهم لله- وهو الإنسانية، جعل الله الأمان أول مقصد وغاية تتحقق لذلك التجمع البشري، حتى قدمه على العبادة التى ذكرها بعده بقوله: «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» [البقرة: 125]. والأمان من أهم المقومات الحضارية؛ لأن أى اجتماع بشرى لا يمكن أن تتوحد أهدافه ومقاصده، وأن يجتمع على غاية كبرى، إلا بعد أن يستشعر أفراده أنهم فى أمان وضمان، لا تهددهم نزعات نفسية مضطربة، أو أفكار ضالة منحرفة، أو رؤىً تتسم بضيق الأفق، أو غير ذلك من الأسباب التى تولد خوفًا وقلقًا، لا يمكن أن يثمر سلوكًا حضاريًّا، لكن الله قد جعل الأمان فى شعيرة الحج وعدًا إلهيًّا، حتى فسر قوله تعالى: «وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا» [آل عمران: 97] بأنه أمر فى صورة الخبر، أى أن الله يأمر المسلمين أن يأخذوا بالأسباب الممكنة من أجل توفير الحماية والأمن لذلك البيت المبارك، ويخبر عن ذلك باعتباره أمرًا واقعًا بلا شك ولا ريب، وهو حث على اعتباره كالحقيقة الواقعة، تصديقًا للوعد الإلهى بجعله أمانًا للناس كافًّةً. ومن صور تحقيق الأمان فى شعيرة الحج النهى عن الجدال كما فى قوله تعالى: «فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجِّ» [البقرة: 197] وهو قطع لكل أسباب الفرقة والاختلاف التى تخل بالاجتماع على مقصود واحد، تحت أى ذريعة من الذرائع التى تفسد على الناس أمانهم وسكينتهم، كما كان الناس يفعلون فى الحج قبل الإسلام، فيفتخر كلٌّ بآبائه، فيحصل بينهم تنازع وافتراق، وهو إشارة إلى معنى حضارى جليل، وهو أن الأمان والسلام لا يتحققان إلا بإخماد النوازع النفسية فى إحياء العصبيات العرقية، أو المذهبية، أو الفكرية، وأن المقاصد العليا كمقاصد الحج لا يمكن أن تترسخ معانيها فى النفوس البشرية إلا بشيء من التعالى على بعض المنطلقات الخاصة، والرؤى المحدودة، حتى ولو كانت حقًّا، من أجل الحفاظ على الغايات الكبرى التى يتوخاها العقلاء.

كذلك نجد أن فريضة الحج قد قصد بها ترسيخ معنى ارتباط العبادة بالعمران، وهو لب الرؤية الحضارية التى أقام عليها المسلمون تصوراتهم، فحين تبيح الشريعة فى هذا الموسم العظيم الأخذ بأسباب الحياة، كما فسر الفضل فى قوله تعالى :«لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» [البقرة: 198] بالتجارة، وهو من أسباب العمران، وأشار سيدنا إبراهيم فى دعوته للبيت العتيق وأهله إلى هذا المعنى، فقال: «رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» [إبراهيم: 37] فالقيام بواجب العبادة إنما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتيسير أسباب الرزق، واكتساب المنافع، وكما أن العبادة تثمر فى الإنسان ذكر الله فى كل وقت وحين، فإن حصول الأرزاق، وتوفر أسباب الحياة يورث شكر الله، فجمع الله بينهما فى شعيرة الحج، كما قال تعالى: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ» [الحج: 28] وحين تنصبغ النفس بتلك المعانى تفيض بالعطاء والتكافل، قال سبحانه: «فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ» [الحج: 28] حثًّا على شكر النعمة بإفاضة الخير، ومد يد العون للمحتاج. هكذا تنقلنا تلك الشعيرة الكبرى بين معانٍ راقية، لا ينضب معينها، لتضرب لنا مثلًا فى كيفية الاجتماع الحضارى بين مجموعات بشرية متعددة الأعراق، والألسنة، والألوان، فضلًا عن الأفكار، ليكون ذلك نموذجًا لخلق منافذ لتواصل حضارى بين البشر، يستحضر المقاصد الكبرى، ويتسامى عن الغايات القاصرة، ويقدم كذلك صورة لاجتماع المسلمين على الوجه الذى أراده الله من اجتماعهم وألفتهم ومحبتهم، دون اعتبار للصور الجزئية التى تكتنفها الخصومات والنزاعات، بسبب البعد عن ذلك المقصد الإلهى المتمثل فى شعيرة الحج.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية