تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الفتوى والتحديات المعاصرة .. ترتيب الأولويات
إننا نواجه اليوم جملة من التحديات على كافة المستويات، فبجانب التحديات العامة التى تواجه معظم الدول فى الألفية الجديدة من مواكبة التطور الرقمى والنمو المعرفى والتحديات البيئية والاقتصادية، فإننا نواجه تحدياتنا الخاصة المتعلقة بقضايا الإرهاب والأزمة الاقتصادية وتحقيق التنمية المستدامة والخروج ببلدنا من كل تلك الصعاب قوية وقادرة على المواصلة فيما بدأناه.
ولا شك أن مع تلك الجملة من التحديات لابد وأن ندرك أولوياتنا بشكل واضح وأن نفهم جيدًا أن تلك الأولويات لابد وأنها تختلف من حيث حاجتنا وتأثيرها فيما نسعى إليه، فبدون ترتيب أولوياتنا تتشتت الجهود، وتضيع الأعمار والموارد فيما لا يحقق النفع الأمثل للأمة.
إن فكرة الأولويات وترتيبها هى قيمة حضارية إسلامية، فإن الله سبحانه وتعالى لم يجعل التكاليف على درجة واحدة، بل جعل بعضها أكد من بعض، فجعل الفرائض مقدمة على النوافل والسنن، فقال سبحانه فى الحديث القدسي: «ما تقرب إليَّ عبدى بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه».
وقد ألمح القرآن إلى فقه ترتيب الأولويات فى آيات متعددة، منها قوله تعالى: «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ»، فى إشارة إلى أن واجب حفظ النفس يُقدَّم اعتباره على واجب حفظ اللسان من التلفظ بما ينافى الإيمان والتوحيد.
ويتجلى ذلك أيضًا فى العديد من الآيات والأخبار عن النبى صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما روى عن أنس رضى الله عنه قال: كُنا مع النبى صلى الله عليه وسلم فى السفر فمنا الصائم ومنا المفطر - قال-: فنزلنا منزلًا فى يوم حار أكثرنا ظلًا صاحب الكساء، ومنَّا من يتقى الشمس بيده -قال: فسقط الصوام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر».
فإنه صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه أن من أفطر وترك عبادة التطوع فى ذلك اليوم الذى يحتاج إلى العمل الشاق من أجل نفع الجماعة كان أكثر أجرًا، ففائدة الفطر من أجل مساعدة المؤمنين وخدمتهم فى الجهاد أهم وأعظم من فائدة الصوم الذى تقتصر فائدته على صاحبه.
إن قضية ترتيب الأولويات نابعة من مسألة محدودية الزمان والموارد، فالوقت الذى نعيشه لا يتسع بالضرورة لكل ضروب الخير وكل أصناف العمل، فهو مهما كان كبيرًا يبقى محدودًا أمام ما يمكن لنا القيام به، أو ما نسعى للقيام به، وكذلك فإن مواردنا ما زالت محدودة، وما زالت تحتاج إلى حكمة فى توجيهها إلى ما يحقق أكبر مصالحنا وأقصى نفعنا.
ولذلك فإننا نحتاج إلى توعية كبيرة بمدى أهمية ترتيب الأولويات، وينبغى على جميع المؤسسات التربوية والدعوية أن تغرس تلك القيمة فى نفوس أولادنا وشبابنا، ولا يخفى دور الفتوى الكبير فى التأصيل لتلك القضية وإرجاع الفتاوى التى ترد على الهيئات والمؤسسات المعنية إلى ذلك الأصل المهم.
وفى هذا السياق نستطيع أن نرى الحضور الكبير لهذا الأصل فى فتاوى دار الإفتاء المصرية، وكيف ان الفتوى تنطلق لتحقيق فقه الأولويات وتدور فى إطاره، ومن الأمثلة على ذلك الفتاوى الكثيرة التى ترد على الدار فى مسائل التبرع لبناء المساجد وتطويرها، فقد نصحت الدار الناس بأن يبادروا إلى التبرع لبناء وتطوير المستشفيات والمستوصفات فى مجتمعاتهم وأن لا يقتصر هذا على زكواتهم، وأن ينشأ لذلك صناديق ثلاثة: الصندوق الأول: يكون للوقف، فيوقِف فيه الناسُ أموالَهم ويجعلون رِيعَها وثمرتها لصالح هذا المستشفى أو المستوصف وعلاج المترددين عليهما أَبَدَ الدهر.
والصندوق الثاني: يكون للصدقات، ويُتصدق منه على البناء والتأسيس والصيانة وإظهار هذا المبنى بصورةٍ لائقةٍ بالمسلمين إنشائيًّا ومعماريًّا وفنيًّا.
والصندوق الثالث: يكون للزكاة؛ يُصرف مِنه على الآلات وعلى الأدوية وعلى مصاريف العلاج والإقامة والأكل والشرب المتعلقة بالمرضى؛ سواء أكان ذلك بصورة مباشرة أم غير مباشرة؛ كمرتبات الموظفين وأجور الأطباء ومصاريف العمليات الجراحية والأشعة، ونحو ذلك.
كما أطلقت دار الإفتاء حملة «كأنى اعتمرت» لمواجهة التداعيات الاقتصادية، التى أصابت العالم كله وليس مصر فقط، ومثَّلت الحملة نداءً إسلاميًّا نابعًا من رؤية الإسلام وفلسفته فى المراد من العبادة، وأن الشريعة معنية فى الأصل ببناء الإنسان وحفظ المقاصد الشرعية فيه.
فأرادت تلك الحملة ترجمة فقه الأولويات وتنزيله على أرض الواقع، ببيان أن هناك واقعًا أجدر بتوجيه النفقات إليه من القيام بأداء العمرة، لاسيما لو كانت العمرة الثانية أو الثالثة، وأن النصوص الشرعية تقدم العمل ذا النفع المتعدى على العمل القاصر من جهة نفعه، فالعمرة لا شك أنها من أبواب البر الجليلة وأن صاحبها مأجور عليها أجرًا عظيمًا، إلا أن إحياء النفس البشرية بتوجيه النفقات للرعاية الصحية، وحفظ كرامتها بتوفير المسكن اللائق، والرعاية التعليمية المناسبة أعظم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحبُّ الأعمال إلى الله عزَّ وجل: سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضى عنه دَينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشى مع أخى المسلم فى حاجة أحبُّ إليَّ من أن أعتكف فى المسجد شهرًا».
فهذا النص النبوى يكشف النزعة الإنسانية فى الشريعة الإسلامية، وأن التصرفات البشرية لابد وأن تدور فى فلك تلك النزعة، فأحب العمل إلى الله لم يكن صلاة أو صومًا، بل كان نفعًا وجبرًا للمحتاج، وهذا الفهم الراقى لنصوص الشريعة الإسلامية يوجِّه إلى أهمية ترتيب أولوياتنا التى أصبحت من واجبات هذا الوقت.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية