تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د.شوقى علام > العلاقة بين العالِم والحاكِم «1»

العلاقة بين العالِم والحاكِم «1»

قامت المجتمعاتُ منذ فجر التاريخ على ترتيب أوضاعها وتنظيم عَلاقاتها باختيار قائدٍ منها يُدير شأنها ويضبُط حياتها، وينقاد أبناء المجتمع له بدَورهم لتستقيم معايشهم، ومع الوقت نضجت الأعراف والتقاليد وتطورت حتى نتجت عنها القوانين والنُّظم التى أدَّت إلى بروز الدولة.

 

وجاء الإسلامُ فأمر بلزوم الجماعة وتنصيب وليِّ أمرٍ يُعينُ المسلمينَ على تنظيم حياتهم وأداء واجباتهم، والفصل فى خصوماتهم ونزاعاتهم؛ فعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه أنَّ النبى صلَّى الله عليه وسلم قال: «إذَا خَرَجَ ثلاثةٌ فى سَفَر فَلْيُؤَمِّرُوا أَحدهم»، وإنما أمر بذلك ليكون أمرُهم جميعًا ولا يتفرَّق بهم الرأيُ ولا يقع بينهم خلاف فيئول أمرهم إلى هلاكٍ.

ثم جاء التوجيه الإلهى بطاعة وليِّ الأمر؛ فقال سبحانه وتعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الْأَمْرِ مِنْكُمْ» [النساء: 59]؛ وكان مقصد التشريع فى ذلك أن طاعة ولى الأمر تمكِّنه من أداء واجبه فى سبيل تحقيق أهداف الوطن وتقوية شوكته، ولا يُقصد بهذه الطاعة رئيس الدولة فقط، بل كلُّ راعٍ فى منصبه، وفق النظم الموضوعة والقوانين المحددة؛ فالمسئولية مشتركة، وإذا حلَّ البلاء وجب التكاتف.

ولا شكَّ فى أن توحيد الكلمة وطاعة أُولى الأمر كان له كبير الأثر فى تنظيم الحياة فى صدر الإسلام، وتوحيد الجهود المبذولة، وتكاتف الأمَّة من أجل هدف واحد، ولنا فى غزوة أُحد عِبَر وعظاتٍ لا تُحصى، حيث تحدَّث القرآن الكريم عن أحداثها فى سورة آل عمران فى نحو أكثر من ستِّين آية لنعتبرَ بها، وبيَّن كيف انتصر المسلمون فى بداية المعركة؛ لأنهم التزموا بتعليمات قائدهم ورسولهم، وعندما خالف خمسون منهم الأوامر وتركوا مكانهم انهزموا جميعًا، وكانوا نحو سَبعمائة مسلم؛ فعُلم من ذلك أن خطأ البعض يعود على الجميع بالخسران، والقرآن الكريم لا يذكر القصص عبثًا؛ فلو تأمَّلنا كتاب الله لوجدنا العِبر والعظات التى تنير لنا الطريق إذا حلَّ البلاء.

ومن هنا توجِّهنا الشريعة الحقة دائمًا إلى أن يتعاون الجميع مع الحكام والمسئولين؛ باعتبارهم حصن هذا الوطن من التفكك والانفلات؛ فكان كلُّ شخصٍ فى موضعه مطالبًا بأن يكون عونًا لهم؛ بحيث يتكامل الجميع للنهوض بالوطن والمواطن؛ يقول تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى» [المائدة: 2].

ولا يخرج العالِم الشرعى من فقيهٍ ومفتٍ وواعظ وداعٍ وغيرهم عن هذا الأمر بالتعاون مع الحكام والمسئولين؛ فالعلاقة بين الحكام والعلماء هى علاقة تكامل وتناصح بما يحقق مصالح البلاد والعباد، والعالِمُ مكمِّلٌ للحاكِم فى العمل على تحقيق مقاصد الشريعة بحفظ النفوس والعقائد وهُوية المجتمع والممتلكات وكرامة الإنسان وَفق آلياتٍ وخطوات يضعها الحاكم بمشاورة العالِم.

ولكن بالرغم من وضوح هذه الرؤية الإسلامية للعلاقة بين العالم والحاكم خرجت جماعاتٌ وتياراتٌ متطرفةٌ تحاول النيل من استقرار الوطن بنشر فكرة الصدام بين العالِم والحاكِم؛ وكان طريقها فى هذه المحاولات تشويه الحكام وتشويه كل من يُعاونهم لتحقيق مقاصد الشرع وَفق آليات العصر؛ فتلاعبت هذه الجماعات بمصطلحات الشرع وابتدعوا مصطلح "علماء السلطان" للنَّيْل من العلماء الذين طالما كانوا عقبةً أمامهم فى نشر أفكارهم المنحرفة التى تهدم الأوطان والإنسان.

واتَّخذت هذه الفرق من وسائل التواصل الاجتماعى منابر للتشكيك فى علماء المسلمين، واستخدموا أساليب الكذب والزور لتشويه صورتهم؛ فكثيرًا ما نجدهم ينتقدون العلماء الذين يولون المصالح العليا للبلاد أهمية خاصة، بل ويقدمونها على المصالح الذاتية الشخصية بمعايير أهل العلم عند تنازع المصالح، نجدهم ينتقدون هؤلاء العلماء بانتقادات مبنية على استدلالات واهية بفهم خاطئ لبعض النصوص الشرعية والتى سنفرد لها مقالات خاصة تبين الفهم الصحيح لهذه النصوص وفى الوقت نفسه تبين عوار فهمهم السقيم.

ولطالما كانت المؤسسات الدينية فى مصر تقوم بوظيفتها فى التكامل والتعاون مع المسئولين عن نهضة وسلامة هذا الوطن؛ وكان نصحها يأتى وَفق النُّظم الموضوعة حديثًا فى التواصل بين مختلف مؤسسات الدولة؛ ويصدُر هذا النصح فى إطارٍ من استقلال الفكر الذى يحفظه لها الدستور والقانون؛ مثلها فى ذلك كسائر مؤسسات الدولة قضائيةً وعلميةً وفكريةً؛ والناظر فى تاريخنا الحديث يلمَس حرص حكام بلدنا دائمًا على هذه الاستقلالية؛ وذلك لفهمهم طبيعة وأهمية التكامل بين العالِم والحاكم.

إن مَن يتبنى فكرة الصدام بين العالِم والحاكِم ويطلِق مصطلح "علماء السلطان" على كل من يرتبط بأولى الأمر إما جاهلٌ بالنصوص الشرعية، وإما مدلِّسٌ يستغل ظاهر النصوص لزعزعة الثقة بالعلماء الربانيين؛ ذلك لأن العلاقة التكاملية بين العالم والحاكم إنما هى علاقة أنشأها الشرع وحث عليها؛ حيث ترك للمسلمين المجال واسعًا فى تنظيم معايشهم وتحسين حياتهم، وذلك تحت ظل منظومة فكرية يُديرها العلماء والحكام، فبهما صلاح الدنيا والآخرة.

إننا ونحن فى خِضَم معركة الوعى وفى وسط المواجهة المحتدمة مع التيارات المتطرفة نحتاج دائمًا إلى تصحيح المفاهيم وبيان حقيقة العلاقة بين العالم والحاكم، ومن ثَم الانطلاق منها لفهم ضوابط تلك العلاقة والتأثير المتبادل بين الفتوى وغيرها وبين الحكم والسياسة، وفقنا الله تعالى جميعا لما يحبه ويرضاه.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية