تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د.شوقى علام > الدروس المستفادة من الهجرة النبوية

الدروس المستفادة من الهجرة النبوية

تعظم الأيام والليالى بعظمة ما وقع فيها من أحداث وبقوة ما أحدثته من آثار عظيمة فى حضارات الأمم والشعوب بل وفى نفوس البشر ووجدانهم، وإذا أردنا أن نصف حدثا بعد البعثة المشرفة على أنه من أعظم أيام الإسلام بركة وأثرا فى الأمة فلن نجد أجدر من حادثة الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بأن توصف بأنها من أعظم أيام الإسلام على الإطلاق.

 

فلم تكن الهجرة مجرد انتقال للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام من مكان إلى مكان بل هى مرحلة فارقة فى تاريخ دعوة الحبيب صلى الله عليه وسلم ومن ثم فهى مرحلة فارقة فى تاريخ الأمة الإسلامية والعالم أجمع، إنها انتقال لتأسيس مجتمع جديد ينعم بممارسة حريته الدينية مجتمع ينعم بتشييد روابط الأخوة الدينية بين المؤمنين وأيضا بتأسيس دستور التعايش السلمى بين المؤمنين وغيرهم، مجتمع ترتفع عن رقاب المؤمنين فيه قيود القهر والظلم ويتنفسون فيه نسائم الحرية التى كانوا يتشوقون إليها.

لكن لعظمة هذا الحدث وحتى يتحول إلى معلم من المعالم التربوية للمسلمين فى كل زمان ومكان جعله الله تعالى خارقا فى معناه وأثره لكنه فى ظاهره جار على السنن والقوانين الكونية التى اقتضت حسن الإعداد ودقة التدبير والأخذ بالأسباب التى هى الأصل فى عمل المسلم ولو كان من أجل رفعة دين الله والانتصار للحق ولو شاء الله تعالى بقدرته أن ينقل النبى صلى الله عليه وآله والثلة المؤمنة من مكة إلى المدينة فى لمحة بصر لكان ذلك هينا، لكن كيف يكون الاقتداء به والنسج على منواله والأمر كذلك.

لقد كانت الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة درسًا للمؤمنين فى إجلال سنن الله وتعظيمها، والصبر عليها، ودليلًا على أن الرسالة المحمدية رسالة إلهية، وليست عملًا إصلاحيًّا خاضعًا للتقديرات البشرية، إذ إنها كانت وفق مقاييس البشر فرارًا من أرض قد استمرت الدعوة إلى الله فيها ثلاث عشرة سنة. ولم يكن من المنتظر أن تنتهى بمفارقة تلك الأرض إلى أرض لا عهد للمهاجرين بها، لكن خروجه من موطنه بعد تلك السنوات كان إرشادًا لأصحابه الكرام والأمة من بعدهم أن تحركه فى دعوته كان خالصًا لله، فلما أجرى الله عليه سنة الابتلاء بمفارقة الوطن والأهل والمال، صبر على ذلك محتسبًا راضيًا بقضاء الله، ليكون التسليم لمراد الله أعظم درس لهم يفتتحون به عهدًا إيمانيًّا جديدًا.

ولم تكن الهجرة فى حد ذاتها جارية على مقتضى المعجزات وخرق العوائد، رغم كثرة المعجزات الحسية التى وقعت فيها، بل كانت جارية على قانون الأسباب، وذلك لأنها كانت مثالًا على كيفية تعامل النبى مع الشدائد بمقتضى بشريته مع وجود الخصوصية النبوية، فأقامه الله فى مقام تتبع الأسباب البشرية، مع كمال اليقين بالله، بدءًا من اصطحابه لسيدنا أبى بكر الصديق رضى الله عنه، تأكيدًا لمعانى المشاركة والمؤازرة، واتخاذه دليلًا فى طريق الهجرة، ولم يكن مسلمًا، تحرِّيًا للأخذ بالأسباب من مصادرها، دون أن يكون اختلاف الدين مانعًا من موانع التكامل البشري، وانتهاءً بوضع الأسس لمجتمع سوي، ومدينة فاضلة، تكون نموذجًا يحتذى فى تعايش العديد من العناصر المختلفة، دون إخلال بالقيم الثابتة.

إن نموذج الهجرة النبوية قد جعل من السعى الرشيد والنية الصادقة الخالصة لله مبدءًا للتعامل مع أى متغير من المتغيرات الجارية فى هذا الكون، مهما يكن فيه من شدة ومعاناة، اقتداءً بالنبى فى استظلاله بظل العناية الإلهية فى قوله لسيدنا أبى بكر: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» [التوبة: 40] فهو يذكِّر سيدنا الصدِّيق رضى الله عنه، بمعية الله لكل من سلك سبيل الرشاد على هدى وبصيرة، وأن ذلك مستوجب لسكون النفس؛ لأن استقبال السنن الكونية بمعية الله يفتح باب السكينة والصفاء، ويغلق أبواب الحزن والكدر.

كانت ثمرة الهجرة إلى المدينة المنورة بناء مجتمع سيصبح بذرة لدولة لها معالمها وقيمها الحضارية، وكانت الهجرة اختيارًا ربانيًّا لبناء ذلك المجتمع على أساس من البذل والتآخى والتعاون والتكافل، ولم تكن قيمة الصبر ـــ وهى أعظم القيم التى تحمَّل بها المسلمون أعباء الفترة المكية ـــ كفيلة وحدها بقيام مجتمع جديد له قيمه المتميزة التى تمتد آثارها منه إلى بقية أرجاء الأرض، فلما كانت إرادة الله سابقة بعموم الرسالة المحمدية فتح لأهلها باب الهجرة، وهيأ لهم أسباب الدعوة إليه على وفق مراده جل وعلا، وليس بناءً على ترتيب مسبق يجعل الأغراض والمصالح هدفًا منشودًا وغايةً مقصودةً، بل الغاية هى أداء رسالة الله إلى العالمين بصورة لافتة للنظر بأخلاقها ومبادئها.

إن الهجرة مثلت قيمة معنوية صالحة لكل زمان ومكان، ليس على مستوى انتقال الأفراد من مكان إلى آخر، لأن ذلك أمر قد انقضى بانقضاء هجرة النبى كما قال: «لا هجرة بعد الفتح» ولكن على مستوى انتقال النفوس من كل الأحوال الدنيَّة التى تنحط بالإنسان إلى دركات البعد عن القيم الدينية والأخلاقية، إلى الأحوال الشريفة التى تربطه بالله جل وعلا، وتجعله على أثر الأنبياء فى استثمار السنن الكونية من أجل الوصول إلى معرفة حكمة الله فى خلق الأسباب والوسائل، والتقلب بين المحن والمنح، حتى تصير جميع الأحوال دافعة إلى الانتقال والهجرة من أحوال النقصان إلى أحوال الكمال.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية