تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
حكاية 11 يورو
ساقتنى الظروف، للسفر إلى ألمانيا، لإجراء بعض الفحوصات الطبية، الخاصة بآلام العمود الفقرى، والتى كنت قد توقفت عن متابعتها، خلال العامين الماضيين، نتيجة لجائحة كورونا، وما ارتبط بها من إجراءات احترازية.
وصلت مساء الأحد،من الأسبوع الماضى، إلى مطار شتوتجارت، واستقليت سيارة أجرة إلى الفندق، فكانت أولى المفاجآت، أن وجدت الطريق الرئيسى، الأوتوبان، أشهر وأهم طرق التحرك السريع فى العالم، Highway، مظلما بالكامل، كما لاحظت أن حركة السيارات تكاد تكون منعدمة، فلما سألت السائق عن السبب، أجاب، باقتضاب، نحن نعيش فى أزمة، ويجب أن نتحمل.
ووصلت إلى الفندق، الذى اعتدت الإقامة فيه، إن دعتنى الظروف للوجود بألمانيا، فكانت المفاجأة الثانية، بأن الغرفة باردة، بصورة مبالغ فيها، فشلت معها كل محاولات تعديل درجة حرارتها، مما دفعنى للاتصال بمسئول الصيانة بالفندق، الذى حضر للغرفة، على الفور، وأبلغته بتعطل جهاز التحكم، إلا أنه أكد لى سلامة الجهاز، وسلامة نظام التدفئة، مضيفاً بالإنجليزية We are saving energy، أى نحن نقتصد فى الطاقة.
وفى صباح اليوم التالى، عند تناول الإفطار بمطعم الفندق، لاحظت أن البرودة ليست مقصورة على الغرف، وإنما على جميع أركان الفندق، فأنهيت إفطارى على عجل، وطلبت سيارة أجرة لأتوجه إلى المستشفى، ورغم أنه كان أول أيام العمل، فإن شوارع المدينة كانت خالية من السيارات، إلا الأجرة منها، وبالاستفسار، مرة أخرى، من السائق، ضحك قائلاً، نحن نعيش حالة 11 يورو، ولما بدا أننى لم أفهم ما يقصد، استطرد فى الشرح قائلاً، ألمانيا تعيش أزمة طاقة، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، التى نتج عنها توقف إمداد الغاز الروسى لألمانيا، والذى يمثل 50% من احتياجاتنا.
لذلك أقرت الحكومة تذكرة موحدة، بقيمة 11 يورو، يستخدمها المواطن الألمانى، طوال الشهر، فى كل أنواع المواصلات العامة؛ القطارات، والترام، ومترو الأنفاق، والأتوبيس. ونجح ذلك فى تقليل اعتماد المواطنين على سياراتهم الخاصة، بعدما صارت تكلفة الذهاب للعمل، والعودة منه، طوال الشهر، تعادل قيمة ثلاث زجاجات مياه معدنية، فى مقابل توفير ما تبلغ قيمته نحو700 يورو، شهرياً، عن السيارة الواحدة، قيمة الوقود وإهلاك السيارة، وما يرتبط بذلك من تكاليف الصيانة وقطع الغيار.
واستطرد قائلاً إن ذلك القرار، حقق للحكومة الألمانية، فى الشهر الأول لتطبيقه، توفيرا بلغ نحو 25% من استهلاك الوقود، ارتفع فى الشهر الثانى إلى 30%. وبوعى منه، وأمام تحدى وفرة الطاقة، الذى أدى لارتفاع أسعار جميع السلع، والخدمات، والمرافق، ومنها فاتورة استهلاك الكهرباء فى المنازل، فقد قرر المواطن الألمانى الاستغناء عن تشغيل نظام التدفئة المركزى، Central Heating، والاكتفاء بتدفئة الغرفة، أو الغرف، الضرورية فحسب.وأقر السائق، بأن قلة الطاقة، أثرت سلبياً على الاقتصاد الألمانى ككل، إذ اضطر العديد من المصانع إلى إغلاق أبوابها، خاصة تلك الكثيفة الاستخدام للطاقة، مثل مصانع الحديد والصلب، كما توقف العديد من الأعمال، مثل المطاعم والمقاهى، ودور السينما، وغيرها، نتيجة عزوف المواطنين عنها، بسبب الغلاء.
وبعد مناقشات لم تدم طويلاً، وصلنا إلى المستشفى، فى زمن أقل من المعتاد، بعدما خلت الطرق من الكثافات المرورية، فوجدت المكان بارداً، وسمعت نفس الرد، من الممرضة،التى تولت تسجيل دخولى للمستشفى، بأن الأزمة الحالية اضطرت إدارة المستشفى لتخفيض درجة الحرارة فى كل الأنحاء، فيما عدا غرف المرضى المقيمين وغرف العمليات. ولما التقيت طبيبى، بادرنى بابتسامته المعتادة، معتذراً عن برودة الطقس فى المستشفى، مضيفاً أن مثلى ممن ينعمون بدفء الشتاء فى بلادهم، لابد وأنهم ممتنون لله على تلك النعمة، وعلى شمس بلادهم الرائعة. بعدها بدأنا الحديث عن حالتى الصحية، وناولته صورة الأشعة المقطعية، MRI، التى أحضرتها معى من مصر، فانبهر بجودة الأشعة، قائلاً «لقد لاحظت تطور الأجهزة الطبية فى مصر، من خلال صور الأشعة الخاصة بمرضى من مختلف الجنسيات، أجروا أشعتهم فى مصر، فضلاً عن دقة التشخيص بالتقارير المرفقة، التى تدل على احترافية الأطباء القائمين عليها، فأشدت بقوة ملاحظته، وأكدت أن زيارتى كانت لاستشارته فى بروتوكول العلاج الذى صرت أتلقاه فى مصر.
وفور خروجى من المستشفى، قررت العودة إلى مصر، فى اليوم التالى، على عكس ما كنت قد خططت، فبرودة الطقس تحيل دون أى متعة، وبالفعل توجهت إلى محطة القطار، قاصداً مطار فرانكفورت، ومنه إلى مصر، فوجدت محطة القطار وكأنها ميدان العتبة، فى تكدسه بالبشر، فتذكرت أنهم يعيشون زمن 11 يورو. وفى المحطة تعرفت على اثنين من المصريين المقيمين بألمانيا، ويحملون جنسيتها، منذ أكثر من ثلاثين عاما، فطلبوا منى إبلاغ رسالة إلى وزيرة الهجرة، برغبتهم فى إنشاء صندوق،على غرار الجزائريين والمغاربة، يتولى تمويل نقل جثامين الراغبين فى الدفن بمصر، دونما تحميل الدولة أى أعباء، سوى وضع القوانين أو الآليات المنظمة لذلك الصندوق، على أن يقوم الراغبون فى الاستفادة من خدماته، بتمويله، وأضافوا أنه حتى أولادهم المقيمين فى ألمانيا، منذ ولادتهم، لم يُنتزعوا من أصولهم، أبداً، ولديهم نفس الرغبة، فى أن يواريهم ثرى بلادهم.
وعدت إلى مصر التى استقبلتنى بروعة طقسها، وحرارة مشاعر أهلها، العاشقون لترابها، حتى وإن اضطرتهم الظروف للعيش بعيداً عنها... ربنا يجعلك عمار دوماً يا مصر.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية