تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د. سماء سليمان > الشراكة المصرية ــ الأوروبية: فرصة استراتيجية تتشكل

الشراكة المصرية ــ الأوروبية: فرصة استراتيجية تتشكل

طالما رأيت في العلاقة بين مصر وأوروبا، ليس فقط إطار تعاون تقليدي، بل فرصة استراتيجية تتشكل تدريجياً مع تغيّر التوازنات في العالم. واليوم، بإقامة أول قمة ثنائية بين  الاتحاد الأوروبى ومصر في بروكسل، تأتي الشراكة المصرية-الأوروبية في مفترق طريق لتُختبر إرادتها وقابليتها للنمو.

 

منذ مارس 2024، تمّ ترقية العلاقة بين مصر والاتحاد الأوروبي إلى شراكة «استراتيجية وشاملة»، تشمل ستة محاور رئيسية: العلاقات السياسية، الاستقرار الاقتصادي، التجارة والاستثمار، الهجرة والتنقّل، الأمن والديموغرافيا، ورأس المال البشري. كما شهدنا تعاوناً متقدّماً في مجال المياه: في أسبوع “مياه القاهرة” (12 أكتوبر 2025) أُطلقت أول «حوار رفيع المستوى» تحت شراكة المياه بين مصر والاتحاد الأوروبي، التي تُعنى بإدارة الموارد المائية، وإعادة استخدام مياه الصرف، ودعم الاستثمارات الخاصة.

ولهذه القمة أهمية بالغة، فالمنطقة والاقتصاد العالمي يمران بتحولات كبيرة: الشيخوخة في أوروبا، أزمات الطاقة والغذاء، الضغوط على الموازين المالية، والأزمات الإقليمية المتسارعة. أمام هذا الواقع، مصر – بموقعها الجغرافي والسكاني – تعد لاعباً محوريّاً.

ويدرك الاتحاد الأوروبي بدوره أن أمنه الجنوبي، تدفّقه التجاري، وإمداده من الطاقة والمياه لن يكون مجرَداً من بوابة الشرق المتوسط ــ وبوابة الشرق المتوسط تمرّ عبر مصر، بشبكتها اللوجيستية، بموقعها، بدورها في الهجرة، بالاستقرار الذي يمكن أن تشكّله. ويوجد عدد من الملفات المحورية في الشراكة، منها: الدعم الاقتصادي والمالية: ففي مايو 2025، أقرّ الجانب الأوروبي اتفاقاً مبدئياً لمنح مصر مساعدات مالية كبيرة – ماكرومالية – تُقدّر بمليارات اليورو، ضمن إطار يغطي احتياجات مصر بين يوليو 2025 ويونيو 2027، مقابل تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية. كما، في أكتوبر، أعلنت وزارة التخطيط عن قرب إتمام صفقة مبادلة ديون مع شركاء أوروبيين قبل نهاية 2025، تهدف إلى تخفيف الأعباء المالية وتحويل الفوائض إلى مشاريع تنموية. وبالنسبة لقطاع التعدين والمعرفة والبحث العلمي، يوجد اتّفاق Horizon Europe، وتجديد مشاركتنا في مبادرة PRIMA للبحوث في المتوسط (مايو 2025) يعني أن الاستراتيجية ليست فقط اقتصاداً بالمعنى التقليدي، بل اقتصاد المعرفة: البحث، الابتكار، تغيير هيكل الاقتصاد المصري نحو الأعلى. هذه المحاور تؤشر إلى أن مصر تريد أن تكون جزءاً من الاقتصاد الأوروبي/العالمي ليس كمستهلك فقط، بل كمشارك منتج. اما التعاون في مجال المياه والبيئة والوصول للمستقبل، فقد أصبحت المياه أحد أهم ملفات الأمن القومي المصري، وكذلك الأوروبي، وأيضا تنطلق اليوم شراكة المياه بين مصر والاتحاد الأوروبي ببرنامج فعلي، في زمن يصعب فيه تجاهل ندرة المياه والمخاطر البيئية. لنا في هذا المجال نافذة مهمة: من التطوير الزراعي المستدام إلى إعادة تدوير المياه، وصولاً إلى الاستثمارات الخاصة – كلّها عناصر تؤسس لشراكة مستدامة.

ومن الملفّات التي لا يمكن تجاهلها: مشروع ربط كهربائي بين مصر وأوروبا عبر كابل بحري، فضلاً عن اتفاقات لطاقة نظيفة تصب في أوروبا. في أكتوبر 2025، تم توقيع اتفاق مصري - إماراتي لدراسة مشروع ربط للكهرباء بين مصر وإيطاليا، عبر مصر، لتصدير الطاقة النظيفة إلى أوروبا.

وتواجه أوروبا اليوم تحدّيات أمنية على حدودها، من هجرة إلى ضغط لوجيستي إلى تهديدات بحرية. ودور مصر في هذه المعادلة من خلال قناة السويس، وهيمنة مصر في البحر المتوسط، وقدرتها على الوساطة – جميعها تجعلها شريكاً استراتيجياً وليس مجرد دولة جوار.

ولنكن واضحين: الشراكة أمامها عدة تحدّيات، أولا: التحوّل من النوايا إلى التنفيذ، والمطالب المرتبطة بالحوكمة، وحقوق الإنسان، هي إجراءات يُطلب تنفيذها من مصر ضمن مساعدات الاتحاد الأوروبي.

فضلا عن الضغوط الإقليمية: الحرب في غزة، التوترات في البحر الأحمر، الهجمات على السفن من الحوثيين – كلّها عوامل تؤثر مباشرة على قناة السويس، وتقلّل من قدرة مصر على الوفاء بدورها كحلقة وصل لاقتصاد أوروبا. والجانب الداخلي الخاص بإصلاح الاقتصاد، خلق فرص عمل، جذب الاستثمار الأجنبي، بناء بنية تحتية فعّالة. بدون هذا الجانب، لا يمكن أن تتحوّل الشراكة إلى رافعة تنموية حقيقية.

من منظوري كمتابع للعلاقات المصرية-الأوروبية، أرى أن المطلوب يتّضح في نقطتين: من جانب مصر أن تتصرّف كمُشارك لا مجرد مستقبِل. أي أن تحوّل موقعها إلى مركز إنتاج وابتكار ومعرفة. تحسين بيئة الأعمال، تشريع واضح، شفافية في العقود، حماية للمستثمر، وتوفير الكفاءات البشرية. ومن الجانب الأوروبي أن ينظر إلى مصر ليس فقط كمصفّق أو مستفيد، بل كشريك يبدأ معه بناء سلسلة قيمة مشتركة: استثمارات صناعية، نقل تقنية، مرافق مشتركة، تدريس وبحث مشترك، وليس فقط مساعدات أو تمويلات.

تمثل القمة رمزاً، لكنها ليست الهدف النهائي. إنما البداية الحقيقية تكمن فيما بعد القمة: كيف سيتم تحويل الكلمات إلى مشاريع، والوعود إلى إنجازات، والرؤية إلى واقع.

الشراكة المصرية-الأوروبية اليوم أمامها مفتاحان: الأول هو الاستدامة — ألا تصبح مجرد علاقة موسمية أو ظرفية، بل شراكة طويلة الأمد. والثاني هو التوازن أي علاقة تُبنى على مبدأ أن مصر لديها حضور فاعل وليس مجرد طرف متلقٍّ، وأوروبا لديها مصلحة حقيقية وليست مجرد سياسة قصيرة الأمد. ما يجمع بين مصر وأوروبا أكبر مما يفرقهما. التاريخ، الجغرافيا، المستقبل الاقتصادي، جميعها تشيران إلى أن شراكتنا مهمة للجانبين، فإذا ما تمكنّا من الالتزام بالشفافية، التنفيذ، الإرادة، فسوف نشهد ليس فقط علاقة أكثر نضجاً، بل تحوّلاً حقيقياً في واقع المنطقة. وإذا تأخرنا في التنفيذ، فسنرجع مرّة أخرى إلى دائرة الاجتماعات والبيانات، بدل أن ننطلق إلى مسيرة تعاون صناعي، تعليمي، ابتكاري، وتجاري متبادَل. والفرصة الآن موجودة. فلنمنحها ما تستحق من التزام، ورؤية، وإرادة.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية