تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

قميص فوضى الفتاوى البالى

قد يظن البعض أنه يخدم الدين ويقيمه بتقديس الفتوى وتحكيمها فى حياة الناس؛ فيدعو إلى توحيدها بين العلماء وبين مؤسسات العلوم الدينية، كما يدعو إلى إيجاب إخضاع الفتوى لقواعد ثابتة ما بين الحلال والحرام. وكأنه يرى أن الدين نزل من السماء ليحكم البشرية بواسطة فتاوى علمائه الممكنين، أو فقهائه المتحكمين؛ مما يوجب توحيد مفهومهم للدين، وأن يخضعوا لقواعد ثابتة حتى تتوحد فتاواهم.

 

وفى هذا الطرح هدم لخصيصة الدين الأولى، وهى تفويضه لله سبحانه: ويكون الدين كله لله (الأنفال: 39), فليس الدين لرسول أو لنبى أو لولى أو لفقيه، وإنما عليهم البلاغ والبيان بأوجهه المتعددة ودلالاته المختلفة وفهومه المتجددة، ويكون لكل أحد من المكلفين فى دين الله مثل ما لصاحبه فى علاقة أحادية توحيدية خالصة مبناها الاستطاعة الذاتية عقليًا وفقهيًا وجسديًا وماليًا، ويتمتع فيها المكلف بالأمان الدينى فى حال علمه بسلامة قلبه وطمأنينة نفسه؛ كما قال تعالى: «يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم» (الشعراء: 88-89)، وقال سبحانه: «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية» (الفجر: 27-28). هذا بالإضافة إلى ظلم ذاك الطرح للدين بتقديم فتوى بعض علمائه كما لو كانت قاعدة قانونية إلزامية؛ خلافًا لحقيقة الفتوى التى هى رؤية صاحبها وفهمه المحتمل للصواب والخطأ، وأنها غير ملزمة.

ثم إن الدعوة إلى توحيد فتاوى المجتهدين أو توحيد مناهجهم دعوة عبثية؛ لاختلاف الفتوى باختلاف الزمان والمكان والحال ومنهج الاستنباط ومهارته التى يتفاوت فيها المجتهدون، كما أن الفتوى تبطل وتفقد حجيتها فى حال إلزام صاحبها بغير ما ألزم نفسه من منهج أو قواعد يدين الله بها مهما تكن ثابتة عند غيره، فما يثبت لمجتهد قد لا يثبت عند مجتهد آخر.

ولنا فى السلف الصالح خير قدوة؛ فهذا عمر بن الخطاب يرى وجوب صلاة الجمعة على المسافر، ووجوب الزكاة فى حلى المرأة؛ بخلاف ابنه عبدالله الذى يرى سقوط وجوب الجمعة على المسافر وأن فرضه الظهر، وسقوط وجوب الزكاة فى حلى المرأة. وهكذا فى سائر فروع الدين التى اتسع فيها الخلاف بين الصحابة وبعضهم، وبين الفقهاء وبعضهم.

ومع هذا الوضوح لحقيقة الفتوى وصناعتها البشرية إلا أن حاملى قميص فوضى الفتاوى البالي, لا ييأسون من المتاجرة به. لقد شاغب البعض بقاموس مصطلحات غريبة لوأد الرشد الدينى المكفول لكل بالغ عاقل رشيد، وتضييق ما وسعه الله، واحتكار ما أطلقه الله، وإنكار حقيقة التعددية الدينية والفقهية والإفتائية بمفردات: (فوضى الفتاوى - التراشق بين آراء العلماء - الطعن فى المصداقية – التشكيك فى كل ما يقال – التشويه – إثارة الجدل والشكوك والرأى العام – الرغبة فى الظهور والشهرة وأغراض أخرى – نشر الفتن – العدوان على حرمة الشرائع والأديان).

إن مجرد تصور جمع الأديان أو دمجها فى دين واحد، وجمع الفتاوى أو دمجها فى فتوى واحدة لا يعدو أن يكون أضغاث أحلام, خاصة عند من يعتقد فى الدولة الدينية، وسيادة الفتوى التى وصفت بهتانًا بأنها من الثوابت، وأن الفتوى يجب ألا تكون مجالًا للخلافات.

إن الأعظم من مهمة الإفتاء التى يريد البعض توظيفها فى إدارة شئون المجتمع بالمخالفة لثوابت القرآن والسنة هو مهمة فقه الدين بتعددياته واختلافاته للعامة والخاصة كما أمر الله ورسوله، وكما فعلها الرسول الكريم فى حياته، فلم يتخذ من أقدم الصحابة إسلامًا مفتيًا لأحدث الصحابة إسلامًا، بل كان كل أحد فقيه نفسه ومفتيًا لها؛ حتى من أسلم فى أواخر أيامه المباركة.

ولا يليق بأمة الإسلام - التى أمر الله فقهاءها أن يفقهوا غيرهم لا أن يفتوا لهم، وأخبر رسوله الكريم، كما فى الصحيحين، أن من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين- أن تميت فقه الدين، وتستبدل الفتوى بالفقه، ولن يعذرها أمية العوام أو أكذوبة عدم استيعابهم للتعددية الفقهية.

إن الفتوى إجابة واحدة حاسمة لسؤال فى قضية محددة، وكأن هذه الإجابة هى وحدها الصواب، وما عداها باطل. أما الفقه فهو بيان لإجابات مختلفة وعديدة لذات السؤال، بحيث يكون للسائل سلطة تقديرية فى اختيار إحدى تلك الإجابات التى تليق بأوضاعه وطمأنينة قلبه، كالسؤال عن العدد الذى يتحقق به صحة صلاة الجمعة؟ فإن الفقه سيظهر - بكل صدق - اختلاف الفقهاء الكبار فى تحديد هذا العدد فى خمسة أقوال مشهورة، وهي: اثنان فأكثر، وثلاثة فأكثر، واثنا عشر فأكثر، وأربعون فأكثر، وخمسون فأكثر. إن الأمانة تستوجب تمكين السائل من تلك الإجابات ليفتى لنفسه بما يناسبه ولا يضطر أن يكون إمعة أو مقلدًا لغيره، وفى هذا تحصين من الطائفية أو الفرقية.

إن حوكمة الشعب لا تكون بتوحيد فتاوى الحلال والحرام؛ لتعددية الأديان فى الواقع، وبناء الاعتقاد على الشخصانية والفقه على الفهم؛ فضلًا عن تسامح الدين عن المخطئ والناسى والمكره والتائب وصاحب الشبهة، وهذا التسامح يتعارض مع الحوكمة التى قد تتفلت برخص الدين. ومن هنا كانت حوكمة المجتمع بالأعراف والعقود والعهود والدساتير والقوانين البشرية، وليست بفتاوى الحلال والحرام التى لا تردع إلا من اعتنقها بذاته دون غيره؛ كما قال عثمان بن عفان: إن الله ليزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية