تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
أمل المستقبل.. وغضب وزير الثقافة في أسيوط
تابعت بكل اهتمام زيارة السيد أ. د. أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة لمسقط رأسي أسيوط، لتفقده قصر ثقافة أسيوط، ولأسيوط في القلب مكان خاص، وكنت أحب أن أكون في شرف استقباله كي يرى أسيوط من وجهة نظري في إطار العمل الثقافي هناك.
ولعل ما تم بثه على مواقع التواصل الاجتماعي من لقاءات مصورة مع العاملين بقصر الثقافة، والوقوف على نظام العمل اليومي هناك لهو أمر يشكل أهمية قصوى في متابعة الهيئة العامة لقصور الثقافة، والتي هي الذراع القوية لوزارة الثقافة المصرية.
وربما ما سأحاول حكيه من مشاهد محفورة في ذاكرتي منذ الصغر في علاقتي بقصر ثقافة أسيوط تكون بمثابة تذكرة بأهمية قصور الثقافة وتأثيرها في الأجيال وتغيير الوعي الجماعي وتغيير سلوك المجتمع، وهي مشاهد واقعية ربما تفيد في النظر لكل أنحاء مصر المحروسة.
أما الشهد الأول فهو مشهد قصر ثقافة أسيوط ذلك المبنى الرمادي اللون والذي جدرانه زجاج مفتوح يرى من بداخله الشارع، ويرى المارة في الشارع من يشبهونهم داخل المبنى فيدخلون بكل شعور بالاطمئنان.
والمشهد الثاني هو تلك الكافيتريا البسيطة داخل القصر وفي المدخل تقريباً، حيث يمكن للجمهور الدخول للراحة والائتناس ومن ثم الاشتراك في الفعاليات، إنه مبنى مفتوح صديق للبيئة المحيطة يحرسه حارس واحد فقط لا غير، وأذكر اسمه كان العم عبد الرحيم والذي لا ينام الليل كي يحرس المكان، أما نهار قصر ثقافة أسيوط فقد كان نهاراً مفتوحاً حراً يحرسه المثقفون والرواد ودفء دماء رجال الصعيد.
وكان في القصر ذات الأقسام المتاحة الآن من فنون وآداب ومكتبة وغرفة للعلوم وأخرى للاستماع، ومكتبة عامرة كنت من المشتركين فيها منذ المرحلة الابتدائية، كما تعلمت في مركز ثقافة الأطفال الكثير والكثير، ولولا وجود هذا المبنى ربما كنت رجلاً مختلفاً تماماً عما هو أنا عليه الآن.
وأذكر القافلة الثقافية التي كانت تتحرك في كل مراكز وقرى أسيوط لتقدم الفنون والآداب لكل الناس دون انتظار مبنى مكيف الهواء في قرية صغيرة.
وكانت جمعية رواد أسيوط هي التي تدير النشاط التجاري للسينما، والتي كانت تتوقف عندما يكون عرض الفرقة القومية للمسرح قد بدأ، وكان المسرح يثير غضب المنتفعين من إيراد السينما التجارية والتي كانت تحقق أرباحاً كبيرة، تنفق على ما يلزم من استكمال البرامج الثقافية واستقبال الضيوف، بل ووفرت جمعية الرواد من إيرادها ما مكنها من إنشاء مبنى إداري فاخر واستراحة جيدة في فضاء قصر ثقافة أسيوط، وشراء سيارات ودفع إقامات مجزية للفنانين المحترفين الذين كثيراً ما كانوا يأتون للعمل في أسيوط، بل واستكمال ميزانيات وزيادة عدد ليالي عروض الفرقة المسرحية والموسيقية.
وبمجرد أن كنت طالباً في السنة الثالثة منحني قصر ثقافة أسيوط، فرصة الإخراج المسرحي هناك عام 1986 وقدمت أول أعمالي وكانت للأطفال، وظلت تلك الفرقة وظللت أعمل معها كواجب مهني وارتباط بالجذور بعد ما دخلت عالم الاحتراف وتعاملت مع كبار نجوم مصر، وكان حرصي عليها سنوات طوال لكونها كانت تحقق التعاون المؤسسي بين التربية والتعليم والشباب والرياضة وبمتابعة دقيقة من محافظة أسيوط وقد كان يرى العمل السنوي كل أطفال المدينة وأطرافها وقراها.
ومع التراكم حققت طفرة في التغيير نحو حضور قوى مدنية تنظر للحياة والفن نظرة مختلفة.
وكان كل ذلك يتم بنظام بسيط يجمع بين الفعل الثقافي والاستثمار وتوفير الموارد الذاتية والتأثير الفاعل في المجتمع.
وقد كانت أسيوط حاضرة في جوارها في الصعيد وفي العاصمة وقدمت عدداً كبيراً من الفنانين والفاعلين الثقافيين لمصر.
أما أن تعود السينما بعد طول غياب كنشاط تجاري مركزي، مع تراجع الإقبال الجماهيري وغياب الإدارة المحلية والتي كانت تعرف ماذا يريد الجمهور، فهي حقاً مسألة لم تحقق الاستثمار بالأرقام بل وقفت حجر عثرة أمام النشاط الثقافي اليومي.
فلا قدمت قصور الثقافة دورها ولا حققت عبر محاولات الاستثمار إلا الخسائر الواضحة، أولاً على صعيد إهدار الأصول والمباني فائقة الجودة، والاستمرار في السعي نحو بناء المباني الفاخرة كي تبقى فاخرة، ثم تحتاج إلى صيانة وعمالة وكهرباء ورواتب بينما لا تصل إلى الجمهور العام.
ولذلك فحقاً ليست مشكلة الثقافة في أقاليم مصر في المباني، بل في نقص ميزانيات إنتاج الفنون، وفي تراجع الحوافز المالية التي كانت لهؤلاء القدامى من الثقافيين والتي حفظت لهم انضباط الحياة اليومية كي يفكر هؤلاء في العمل النادر المخلص من أجل نشر الثقافة والفنون.
وأيضاً تحتاج فعاليات وعروض الهيئة التي يتم إنتاجها بمبالغ كبيرة للنظر في مخرجاتها القليلة في عدد ليالي العرض وقد كانت جمعيات الرواد التي تم منعها من استقبال الإيرادات هي التي تستطيع زيادة ليالي العروض، وإن استمرت الهيئة في رصد ميزانيات أقل لعدد ليالي عرض محددة مقابل جهد بشري كبير وإنتاج مالي ليس بقليل، فهي تستمر في طريق مظلم.
تحتاج الهيئة إلى استعادة نظامها وتقاليدها وحرية عملها وقدرتها على توفير الإيرادات الذاتية، كي تستطيع أن توفر مجانية الثقافة وعدالتها.
ولا زلت أؤمن أن الأثر اللامرئي للهيئة العامة لقصور الثقافة بعيداً عن المهرجانات والفعاليات السنوية الكبرى والعروض الفنية هو الأثر الأهم، أن يقرأ رجل كتابا، أن يسمع الموسيقى، أن يمارس الحرف التقليدية والفنون التشكيلية، أن يغني أو يكتب شعراً، أو يصبح عضواً في جماعة فنية.
هو الدور الحقيقي الذي يبني المجتمعات، التي صارت تستطيع عبر التكنولوجيا الأثيرية أن تكسر نظرية المركز والأطراف لتجوب العالم كله بفنونها وإبداعها دون أن تغادر مكانها الأصلي، وفي هذا هدف جوهري في باب التحول الرقمي في مجال الثقافة.
حديث ذو شجون ولعل انضباط العمل اليومي بالهيئة الثقافية التاريخية هو الأمر الضروري لبداية عودتها لدورها الحقيقي فقد كانت ولا تزال مدرسة لفنون الآداب والانتماء والقيم، ويجب متابعة هذه العلاقة الحية مع الجمهور والرواد وفي ذلك يجب أن تعود لجمعيات الرواد قدرتها على إنتاج واستقبال وإدارة الموارد الذاتية لتحقيق بيئة منطقية محفزة للعمل لدى المنشطين الثقافيين والرواد.
حقاً أبهجني للغاية غضب وزير الثقافة أ.د. أحمد فؤاد هنو، وهو غضب يحمل اعترافاً بالأزمة، وهي البداية الحقيقية للتغيير الممكن نحو مستقبل أفضل للثقافة المصرية.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية