تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
انتصار الشاشات.. والفلاسفة الإلكترونيون
هاجرت الشبكة العنكبوتية أمريكا وسحبت وراءها العالم كله إلى عالم افتراضي، بواباته هي شاشات فضية اللون تؤدي إلى جسور رقمية. شاشات تنتشر وستنتشر في كل مكان كمداخل لعقول تتعامل مع الناس في فضاء إلكتروني غير مرئي في كافة المؤسسات كَبُرت أم صغُرت حول العالم.
فالأمر الذي بدا أنه مجرد تطور لآلات الطباعة والآلات الكاتبة عند ظهور الكمبيوتر صار شبكة ضخمة من الأسلاك تحيط بالكرة الأرضية كلها. قبض هذا الأخطبوط الأسطوري بأطرافه الحديدية على ابتكارات بشرية قديمة قِدَمَ الإنسان ذاته. فاختفت الكاميرات وآلات التسجيل والساعات وغيرها. أما (القلمُ) وهو من أقدم ابتكارات الإنسان وهو الذي ذُكر في النصوص المقدسة فهو في طريقه لأن يكون ذكرى، بكل أنواعه من أرخص وأصغر أقلام الرصاص لأفخم أقلام الحبر.
يتجاوز الأمر - بإصرار سياسي واقتصادي ومالي وبسرعة - الفتك بالمنتجات المادية إلى التهديد بتحويل مهارات كاملة إلى ملكات لا قيمة لها؛ مما يطرح تساؤلات عميقة مجهولة الإجابات عن التعليم وأشكاله وبرامج التدريب وأشكال الإدارة في عالم متباين درجات التطور العلمي والمعرفي والإداري.
فصارت هناك مهنٌ في أكثر عواصم العالم تقدمًا مهدَّدة بالاندثار والاختفاء أو تجبر إجبارًا لا رحمة فيه على تغيير مساراتها وأساليب عملها وتقليص أعداد العاملين فيها بشكل مُخيف مما سيخلق بطالةً مهولة.
ما هو دور مكاتب البريد وسعاة البريد اليوم؟ بينما يقتحم البريد الالكتروني وشركات أمريكية عملاقة كأمازون كل أحياء العالم؟ وما هو دور المترجمين في ممرات المستشفيات والمطارات؟ بينما تظهر تطبيقات الترجمة، وتزداد كفاءتها دافعة العديد من ممتهني هذه المهن للبطالة؟
أما المكتبات فهي قصة حزينة. فلقد صار الحصول على كل الكتب حاضرًا عبر البريق الفضي اللامع للهواتف المحمولة، وشاشات الكمبيوترات في كل مكان وأي مكان وأي وقت ولأي إنسان.
كان للمكتبات وقاعاتها صمت مقدس يقارب محاريب الصلاة فصرنا نرى رجال الإدارة يقترحون تقليص مساحاتها ثم الاستغناء عن أماكنها لاستخدامات أخرى كممرات للمرضي أو الكافيهات، فاختفت الإطلالات المتواترة للناس على الدوريات العلمية، أما الأخيرة، فلقد صارت نزيلًا في الفضاء الالكتروني مجبرة على أن تتغير شكلًا وموضوعًا بعد أن فقدت بريقها ومكانتها شبه المقدسة. اتسعت دوائر التساؤلات لتضم صناعة النشر ذاتها؛ فما هي أهمية أن تنشر كتابًا مطبوعًا وهل صارت القراءة ذاتها محل شك؟ فهل (اقرأ) الخالدة المقدسة كوسيلة نبيلة للمعرفة تتراجع أمام (شاهد واسمع واقرأ فتعلم) من اليوتيوب.
اتسع العالم الرقمي ليضم المصارف والنقود. فما هو دور المصارف؟ وما هي النقود؟ فهل تحتاج زيارة المصرف أو البنك أو لقاء موظف كبار العملاء أو صغار العملاء؟ ولماذا يحصل البنك على نسبةٍ ماليةٍ من تحويلات أموالك؟ فهل يقتصر دورها على الإقراَض؟ ولماذا حتى يتطلب الإقراض المصارف ذاتها؟ صارت هناك برامج تدس أنفها في حساباتك والضرائب إلى تدفعها وتؤديها من ركن سيارتك أمام المقاهي أو ركوب حافلات النقل التي صارت ترفض النقود الورقية في مدن العالم بل إن الإقراض المصرفي سيصير ساحة تنافس لتطبيقات الكترونية.
تجاوز الأمر كل هذا إلى إعطاء قبلة حياة للرأسمالية عن طريق تجديد شكل براءات الاختراع وحقوق الملكية الفكرية بما يتصوره البعض جنينيًا باسم الـ Non Fungible tokens NFT. فلماذا مثلًا تقتني لوحة فنية مرسومة بالقلم والريشة والألوان؟ ولماذا تحتل هذه اللوحة مكانًا ثابتًا لا يتغير، بينما من الممكن أن يقبع في ذات مكان اللوحة المادية شاشه تعرض مئات اللوحات في تدرج تختاره أنت وبدقة بصرية لا حدود لها؟ هذا بينما يستفيد الفنان الذي رسمها من استخدامك لها ومن استخدام عدد لا نهائي ممن ابتاعوها عن طريق ما يشابه (حقوق نشر إلكترونية) مبنية رقميًا داخل اللوحة ذاتها. بل وإن حقوق النشر هذه مرتبطة ارتباطًا بنيويًا باستخدامك لها وبحسابات المالية؛ فتحول النقود الرقمية إلى الحساب الرقمي للفنان دون إرادتك ودون وعيك، وتبعًا لدورية ظهورها على شاشتك.
تساؤلات لا تنتهي عن الاستقلال الوطني ومعناه وحدوده وسط ذلك التداخل الالكتروني وتساؤلات عن البطالة وعن التقدم وعن سيطرة الاحتكارات العملاقة فتلك الشركات ذات ميزانيات تتجاوز دولا بأكملها ولها محامون ومحاسبون وعالميون يروجون أن التزاماتها الضرائبية أو الجمركية عائق أمام التقدم والاستثمار في الدول الصغيرة. وأن الدول الصغيرة عليها الانصياع (الرقمي) حتى تلاحق الحداثة والتقدم وأن نموذج الحكومة الرقمية الذي اختبروه في استونيا الصغيره عام ٢٠٠٢ هو ذاته ما يصلح لمصر والهند.
أما السؤال الأعمق والأغرب فهو عمن اختار تلك المسارات الاقتصادية والسياسية والمالية وهل هي نتاج اختيارات تلقائية أم أنها مبرمجة سياسيًا؟ وهل هي اختيار البشرية الوحيد؟ وهل في صالح الإنسان أم أنها قبلة الحياة للرأسمالية؟ فأرباحها تخلق موجة جديدة من المنتجات ووجودها بالحتم يستدعي إسقاط العملات المحلية الورقية، ومع إسقاطها فإن مفهوم الاستقلال الوطني سينتهي.
أما الأهم فهو عن التحديات التي تواجه شعوب العالم وفقراءه الذين لا يعرفون حتى القراءة والكتابة. نعم هناك عولمة تترنح ولكن هناك عولمة رقمية بلا قلب أو روح ستفتك بالصغار والكبار وتهدد العلاقات الاجتماعية وشكل الأسر في عالم تسوده الأمية الحقيقية والعوز والحاجة. عولمة تمت هندستها من فلاسفة إلكترونيين يحددون مسار البشرية.
لقد أسقطت الشبكة العنكبوتية العالم كما نعرفه بموجتيها الأولي والثانية، وها هي البشرية ترى بشائر الموجة الثالثة بقلب حائر ونفوس مضطربة.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية