تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
إثيوبيا وصناعة الأزمات
إثيوبيا أصبحت تمثل مصدرًا لإفتعال الأزمات وتصديرها إلى كل جيرانها، هروبًا من أزماتها الداخلية الطاحنة، سواء الاقتصادية أو المتعلقة بالصراعات القبلية والعرقية والإثنية. ولم تكتفِ بما فعلته في ملف مياه النيل وتشغيل سد النهضة من خروقات وتجاوزات تسببت في وفاة المئات ونزوح الآلاف من سكان المدن والقرى السودانية قرب الحدود، حتى أشعلت فتيل أزمة متجددة بإصرارها غير القانوني على إيجاد منفذ لها على البحر الأحمر.
ولفهم هذا الموقف في سياقه السياسي، لا بد من العودة إلى التاريخ البحري لإثيوبيا. ففي عام 1952، قررت الأمم المتحدة توحيد إريتريا مع إثيوبيا في اتحاد فيدرالي، مما منح أديس أبابا منفذًا بحريًا عبر مينائي عصب ومصوع على البحر الأحمر.
لكن، بعد استقلال إريتريا رسميًا عام 1993 عقب استفتاء ساحق، فقدت إثيوبيا منفذها البحري الوحيد، وأصبحت دولة حبيسة. على الرغم من استمرار إثيوبيا في استخدام ميناء عصب كجزء من اتفاقياتها التجارية في السنوات التالية، إلا أن اندلاع الحرب الحدودية بين البلدين عام 1998 أدى إلى إغلاق الموانئ الإريترية نهائيًا أمام حركة المرور الإثيوبية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت إثيوبيا تعتمد بشكل شبه كامل على ميناء جيبوتي، الذي يمر عبره أكثر من 90% من تجارتها الخارجية.
الخرائط تُظهر أن ميناء مصوع بعيد عن الحدود الإثيوبية، بينما يقع ميناء عصب بالقرب منها نسبيًا ويطل على مضيق باب المندب، مما يجعل أي طموح إثيوبي للحصول على منفذ بحري ذا أهمية استراتيجية من حيث الأهمية العسكرية والإمكانات.
يُفسر السياق الإقليمي أسباب التوترات المتزايدة. قبل أيام، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أنه طلب وساطة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لإيجاد حل سلمي مع إريتريا يضمن لها الوصول إلى البحر الأحمر. وأضاف في البرلمان أن إثيوبيا أجرت محادثات مع ممثلين من الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي، مؤكدًا أن سعي بلاده للحصول على منفذ بحري "لا رجعة فيه"، محذرًا أيضًا من أن إثيوبيا تمتلك القوة الكافية عند الحاجة. هكذا تعتقد أديس أبابا أن استمرارها في تصدير الأزمات إلى محيطها الجغرافي والسياسي يمكن أن يصبح وسيلة جيدة لإلهاء مكونات المجتمع الإثيوبي عن مشاكل الداخل التي قد تؤدي إلى تفتيت الدولة.
التاريخ يذكر أن إثيوبيا خاضت سلسلة من النزاعات التي تعتمد على دعم تمرد الأقاليم داخليًا وخارجيًا خلال العقود الماضية، ولم تجنِ من وراء تلك السياسة إلا زيادة التوتر وتكريس السلوك التوسعي بديلاً عن إرساء مبادئ التعاون المشترك واحترام القانون الدولي لفض المنازعات.
شملت تلك النزاعات مع السودان على منطقة الفشقة، ومع إريتريا على بادمي، ومع كينيا على الحدود البدوية، ومع الصومال على إقليم الأوجادين، ومع جيبوتي حول إقليم العفار، فضلاً عن حروب داخلية ضد التيغراي والأمهرة موثقة دوليًا.
الموقف المصري الذي يتميز بالرشد والوعي يدرك أبعاد هذا اللهو. وجاء لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي مع نظيره الإريتري أسياس أفورقي في القاهرة، في ظل تصاعد تلك التوترات. وناقشا التطورات في منطقة القرن الأفريقي، بما في ذلك مسألة السيادة الإريترية - وهي نقطة أكد عليها السيسي - وشددا على أهمية تعزيز التعاون لضمان أمن البحر الأحمر وحرية الملاحة فيه.
موقف القاهرة الراسخ والثابت مبني على الإطار القانوني الدولي للبحار الذي يمنح الدول المتشاطئة حق السيادة الكاملة على مياهها الإقليمية والمناطق الاقتصادية الخالصة حتى 200 كيلومتر. ليس هذا فحسب، بل هو أيضًا مدعوم بالتنسيق بين هذه الدول المشاطئة: مصر، والسعودية، والسودان، وإريتريا، واليمن، باعتبارها مسألة أمن قومي تخصهم وحدهم فقط.
من منطلق مواقف مصر التاريخية التي تهدف إلى التعاون وعدم الإضرار بمصالح الآخرين، فإنها لا تمانع مبدئيًا في أن يكون لإثيوبيا منفذ بحري، لكنها ترفض الأسلوب الذي تتبعه أديس أبابا في افتعال الأزمات مع جيرانها، وهو ما يفضح السلوك الإثيوبي، من التلويح باستخدام القوة إلى التحريض على الانفصال في الصومال.
وهذا ما يثير مخاوف القاهرة وكل دول الجوار من تهور بعض الأطراف باللعب على الثوابت والتعامل مع الأقاليم المتمردة للوصول إلى تحقيق أهداف تكتيكية لن تتحقق إلا من خلال التفاهم والتعاون المشترك، وليس بالتهديد والقوة المسلحة التي تفتقر إليها فعليًا.
في ضوء هذه التطورات، يبقى السؤال مطروحًا: إلى أين يتجه هذا التصعيد الإقليمي؟ حيث يعكس الوضع الراهن توازنًا هشًا بين الجهود الدبلوماسية الرامية إلى خفض التصعيد والتهديدات العسكرية التي تنذر بانفجار محتمل، في ظل حالة من عدم اليقين بشأن الخطوات التالية لأديس أبابا.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية