تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

انقلاب أيديولوجى فى أمريكا

التحول الكبير فى السياسة الأمريكية لغز بدأت أجزاؤه فى التكشف. فتش عن الأيديولوجيا. ما يحدث أمامنا فى الولايات المتحدة ليس أقل من انقلاب أيديولوجى كامل الأوصاف، أوصل إلى السلطة تيارا أيديولوجيا يخالف جذريا التيارات الأيديولوجية التى مثلت التيار الرئيسى فى السياسة الأمريكية بتنوعاتها المختلفة.

كان هناك جمهوريون وديمقراطيون
، لكنهم يتركزون فى مساحة ضيقة فى الوسط، الذى قد يميل قليلا إلى اليمين أو اليسار، إلى الجمهوريين أو الديمقراطيين، حتى إن كثيرا من الناس، خارج أمريكا وداخلها، لم يكونوا قادرين على ملاحظة الفرق بين الحزبين.
لقد تغير هذا الآن فالرئيس دونالد ترامب يقف على رأس تيار أيديولوجى لا ينتمى إلى مساحة الوسط المعهودة، مدافعا عن قيم تختلف عن القيم المشتركة بين تيارات الأيديولوجيا والسياسة الأمريكية التقليدية.

 

من بين الأوامر التنفيذية التى وقعها الرئيس الأمريكى فى اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض أمر بإلغاء العمل بمبادئ التنوع والعدالة والإدماج فى الحكومة الأمريكية، بحيث أصبحت الإدارات الحكومية ملزمة بإزالة أى إشارة إلى هذه المبادئ، التى تم إقرارها منذ الستينيات، فترة صعود حركة الحقوق المدنية، التى كافحت من أجل إفساح المجال للفئات المهمشة التى عانت التمييز لفترات طويلة، لإيجاد فرصة فى وظائف الحكومة وعلى مقاعد الدراسة، فى محاولة لتعويض الفئات المهمشة عن الاضطهاد الذى لحق بها، ومساعدتها على اللحاق بما فاتها، وتسريع عملية صعودها لسلم الارتقاء الاجتماعى.

اليمين الأمريكى الجديد الذى يمثله الرئيس ترامب لا يحب هذه المبادئ، ولا يرى أن من واجبات الدولة مراعاة الضعفاء من المواطنين. يعتبر اليمين الجديد الحاكم أن إعمال مبادئ التنوع والعدالة والإدماج يمنح الفرصة لمن لا يستحقها، ويتسبب فى تدهور مستويات الأداء. لهذا وضع الرئيس ترامب اللوم على مبادئ التنوع والعدالة والاحتواء عندما اصطدمت طائرة ركاب بمروحية فوق العاصمة واشنطن بعد قليل من دخوله البيت الأبيض. استبق الرئيس ظهور نتائج التحقيق، فزعم أن الموظفين القائمين على إرشاد الطائرات غير جديرين بوظائفهم بعد أن تم التضحية بمعايير الكفاءة على مذبح التنوع والعدالة والاحتواء.

أنشأ الرئيس ترامب وزارة الكفاءة الحكومية التى يشرف عليها حليفه الملياردير إيلون ماسك، ومنحها سلطة الدخول إلى الإدارات الحكومية وقواعد بياناتها، ضمن مخطط كبير لفصل أعداد كبيرة من الموظفين، واستبدالهم بآخرين مؤمنين بأيديولوجيا اليمين الصاعد، وإلغاء الوزارات والمصالح الحكومية التى تعكس القيم التى يخاصمها هذا التيار.

جوهر ما يحدث فى هذه العملية هو اجتثاث التيارات الأيديولوجية ذات الوجه الليبرالى التى حكمت الولايات المتحدة لعقود طويلة، وتمكين التيار الأيديولوجى الصاعد حديثا إلى السلطة من السيطرة على مفاصل الدولة، وهو نفس ما يحدث فى كل مرة يقع فيها انقلاب أيديولوجى، سواء حدث الانقلاب بطريق الانتخاب الديمقراطى أو الثورة العنيفة.

فى خطبته أمام مؤتمر ميونيخ للأمن، أهم تجمع فكرى أوروبى، قدم جى دى فانس، نائب الرئيس الأمريكى ترامب، أكثر التعبيرات الأيديولوجية وضوحا عن التيار الجديد الحاكم فى الولايات المتحدة. فى حضور ممثلين رفيعى المستوى لكل الحكومات الأوروبية ألقى السيد فانس خطابا صادما للقيادات الأوروبية، وبدلا من الحديث عن قضايا الأمن التى تشغل بال القارة الأوروبية بسبب الحرب الأوكرانية، ألقى السيد فانس مانيفستو أيديولوجيا، زاعما أن الخطر الحقيقى الذى يهدد أوروبا ليس خطرا خارجيا، وإنما هو خطر داخلى، يرجع إلى الطريقة التى تتم بها إدارة المجتمعات والدول الأوروبية.

تخشى أوروبا من صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة لما تسببت فيه الأحزاب النازية والفاشية من حروب مدمرة فى الماضى غير البعيد. تتضمن القوانين الأوروبية قيودا تحد من إمكانية الترويج لأفكار اليمين المتطرف، وهذا بالضبط ما اعتبره نائب الرئيس الأمريكى نقطة خلاف مع الولايات المتحدة. وجه جى دى فانس سهام انتقاداته للقيود التى تفرضها أوروبا على خطاب الكراهية والتمييز ضد المرأة والتطرف الدينى وترويج المعلومات المضللة، وهو ما اعتبره نائب الرئيس الأمريكى مقيدا لحرية التعبير ومعاديا للديمقراطية، ويضع أمريكا وأوروبا فى معسكرين أيديولوجيين مختلفين.

لاحظ أن نائب الرئيس الأمريكى قال هذا الكلام فى مؤتمر عن الأمن، فيما الولايات المتحدة تسير حثيثا فى اتجاه التخلى عن التزاماتها الأمنية تجاه أوروبا، داعية الأخيرة لتحمل مسئولية الدفاع عن نفسها، وكأن نائب الرئيس الأمريكى يقول إن الولايات المتحدة لن تتحمل مسئولية الدفاع عن دول لا تشاركها نفس القيم والأفكار، فيما يمكن اعتباره إعلانا للانشقاق الأيديولوجى بين الولايات المتحدة وأوروبا، فيما تتقارب واشنطن مع موسكو، التى تبدو كما لو كانت أقرب لها أيديولوجيا.

أثار خطاب السيد فانس الفزع لدى الحكومات الأوروبية، بسبب خشيتها مما قد يترتب عليه من إعطاء أحزاب اليمين المتطرف دفعة قوية تسبب الاضطراب فى السياسة الأوروبية، وقد تظهر نتائج الدعم الأمريكى لأحزاب اليمين المتطرف فى الانتخابات الألمانية التى تعقد بعد أقل من أسبوع. الولايات المتحدة تبدو عازمة على تعميم الانقلاب الأيديولوجى الحادث فيها على بلاد أوروبا، بحيث يظهر لنا غرب من نوع جديد، تسيطر عليه نزعات يمينية معادية لليبرالية.

الانقسام والاستقطاب الأيديولوجى آخذ فى التعمق فى الولايات المتحدة وأوروبا منذ مطلع القرن الحالي. وصول الرئيس ترامب للحكم مرة ثانية يشير إلى أن التحولات الأيديولوجية الأمريكية ستبقى معنا لبعض الوقت، وأن آثارها قد تكون مرشحة للانتشار إلى أوروبا.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية