تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
ألغاز السياسة الخارجية للولايات المتحدة
خصصت وقتا طويلا الأسبوع الماضي لأقرأ بعض ما يكتبه ولأسمع بعض ما يقوله المؤرخون والخبراء وكوادر الدولة الأمريكية المحسوبون علي الحزب الجمهوري أو المتعاطفون معه عن السياسة الخارجية الأمريكية، واستمعت أيضا إلي مؤرخ أمريكي تخصص في دراسة العلاقات السياسية بين الولايات المتحدة ودول القارتين الأمريكيتين، والأخير غالبا يساري.
ما قاله الأخير ذكرني بما يقوله كبار المتخصصين في الشأن الروسي عن السياسة الخارجية الروسية، وبما قاله الفيلسوف الفرنسي توكفيل في ثلاثينيات القرن التاسع عشر عن كل من روسيا وأمريكا. في أول 150 سنة من عمرها أدمنت الولايات المتحدة – شأنها شأن روسيا إلي يومنا هذا- التمدد الخشن علي حساب الجوار، وكانت تري نفسها حاملة لرسالة تحتم سيطرتها علي القارتين الأمريكيتين، الفارق بين القوتين الكبيرتين هو أن مقاومة الجوار لسعي الولايات المتحدة الدائم إلي التوسع والسيطرة دفعت واشنطن أو علي الأقل بعض نخبها إلي مراجعة مقولاتها وأساليب عملها وفلسفتها لتدرك حدود قدرة القوة الغاشمة ولتقوم بتطليق مشروعاتها التوسعية في القارتين طلاقا بائنا، وتفكر في صيغ هيمنة قائمة علي التعاون ورضاء المهيمن عليهم واستفادتهم إلي حد ما من هذه الهيمنة وهذه التبعية. هذه المراجعات استغرقت وقتا واكتملت فى أثناء ولاية الرئيس فرانكلين روزفلت الأولي. لا نقول ولا يقول مؤرخنا إن الولايات المتحدة لم ترتكب بعد ذلك خطايا وجرائم، ولا أنها كفت تماما عن التدخل الخشن في القارتين، فالعادات لا تتغير بسرعة، واستسهال اللجوء إلي العنف لا يختفي أبدا، ما أقوله من أن قيام الولايات المتحدة بتأسيس النظام الدولي المبني علي قواعد، وهو ثمرة الانقلاب الفكري الذي حدث في ولايات فرانكلين روزفلت وهاري ترومان. وما يقوله المؤرخ إن هذه «الأنانية المستنيرة» وهذا الشكل الجديد للهيمنة التي جسدها النظام الدولي الجديد يدين بالكثير لمقاومة أمريكا اللاتينية وما تعلمته الولايات المتحدة من خلال تمددها في القارتين وتداعياته.
نتفق – بتصرف- مع بعض مقولات مؤيدي الرئيس الحالي، منها أن النظام العالمي المبني علي قواعد افترض ضمنيا وجودا شرطيا عالميا، وأن الولايات المتحدة لم تعد قادرة علي القيام بهذا الدور علي جميع المسارح، وآن الأوان لتحديد وترتيب الأولويات أو لتعديل قواعد اللعبة. يقولون أيضا إن الطور الأخير للنظام العالمي– طور العولمة الرأسمالية إن شئنا التبسيط- أدي إلي تمكين الصين، وإلي تحويلها إلي مارد مخيف، ويضيفون أن الرئيس الحالي أول من فهم أن الصين ليست شريكا أو منافسا اقتصاديا – بل منافس مناوئ وربما عدو جيوسياسي، أو الأقل هو أول من تصرف علي هذا الأساس.
هنا تبدأ الخلافات بين الخبراء حتي بين الجمهوريين منهم. هناك من يري أنه يجب الحفاظ علي النظام الدولي القديم، وأن الحل الوحيد هو إجبار الدول الأوروبية ودول آسيا وكل راكب لا يدفع التذكرة ومنها تايوان علي تحمل جزء كبير من أعباء الدفاع والأمن في المحيطات وفي عدد من القارات. هناك أيضا انعزاليون يرون أنه يتعين علي الولايات المتحدة العودة إلي الصيغ السائدة قبل ثلاثينيات القرن الماضي – أي التفرغ لحماية الداخل ولبسط الهيمنة علي الأمريكيتين، هناك من يري أن الوجود علي مسرح المحيطين الهندي والهادي أو علي المسرح الآسيوي أولوية قصوي تجب غيرها، وفي هذا الفريق نجد من يري أن مواجهة الصين تحتم فصل روسيا عنها ويتصور أن هذا ممكنا، وهناك خلافات حول تقييم أهمية خطاب بث الديمقراطية وحقوق الإنسان – هل هو خير كله أم شر كله، هل نفعه أكبر من ضرره أم العكس.
هناك قضايا أخري، منها هل يمكن الجمع بين عدد من المناهج والسياسات المختلفة التي يتبناها الخبراء ورجال الإدارة؟ ومنها ما يتعلق بتأثير ما يطالب به الداخل الأمريكي وما تريده جماعات المصالح، فمشارب ناخبي ومؤيدى الرئيس مختلفة، وهناك طبعا مسألة تفضيلات كوادر الإرادة، وبين هذه الفئات وداخل كل منها تناقضات كثيرة واختلافات عميقة، وعلينا ألا نغفل حقيقة أن خصوم الرئيس في الحزبين يريدون إفشاله لأن أي نجاح له يشجعه علي الإخلال بالتوازنات والضوابط الدستورية التي تحكم وتؤطر عمل السلطات الثلاث، وعلي عدم احترام الدستور، وهناك أيضا تباين شديد في تقييم أساليب عمل الرئيس وتأثير تقلباته وتصريحاته وقراراته وتركيبته النفسية وخلفيته المهنية ومصالحه الخاصة ومصالح رجاله علي مصداقية الولايات المتحدة، وهناك مشكلة انحيازه العاطفي لروسيا وعداوته الغريزية لأوكرانيا.
لا يمكن القيام بحصر دقيق لكل الملفات. ما يمكن قوله هنا هو إن أنصاره وخصومه علي حد سواء يرون أن إدارته ملفات المسرح الآسيوي سيئة، من ناحية من غير الواضح إن كان يريد الرئيس تحسين شروط التجارة مع الصين أم مواجهتها، هو غالبا لم يحسم أمره، من ناحية أخري يتفق الخبراء أن شن حرب تجارية مع الصين خطوة لم تسبقها دراسات جادة، علي عكس الصين التي استعدت لهذا السيناريو منذ بداية الولاية الأولي للرئيس، ويبدو أنه لا أحد حذر الرئيس من احتمال توظيف الصين أوراقها في مجال المعادن النادرة الضرورية لعدد كبير من الصناعات الحيوية. وفي نفس الصدد الاستعداد لمواجهة – سلمية أو غير سلمية- مع الصين يقتضي عدم إضعاف الحلفاء بطلبات لا نهائية حول التجارة – يمكننا تفهم الضغط من أجل زيادة الإنفاق الحربي، ولا يمكن فهم قيام واشنطن بمطالبة دول أوروبا بالابتعاد عن هذا المسرح ولا تعريض العلاقات مع الهند للخطر.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية