تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د. أنور مغيث > العلوم الإنسانية وتكوين الشخصية

العلوم الإنسانية وتكوين الشخصية

العلوم الإنسانية هى التى تدرس الظاهرة الإنسانية فى مقابل العلوم التى تدرس ظواهر الطبيعة. كان التعليم فى عصره الكلاسيكى يعتبر العلوم الإنسانية والآداب والفنون هى أساس التعليم، لأن الغرض من التعليم هو تزويد الإنسان بالثقافة الرفيعة. فغاية الانسانيات هى صياغة شخصية الإنسان وترقية الذوق وتحقيق السمو الأخلاقى، ولهذا كانت الكلاسيكيات الكبرى فى الفلسفة والمنطق والتاريخ والأدب هى المواد الأساسية التى لا يجب تغييرها مهما تغير الزمان. أما باقى المهن مثل الطب والعمارة فكانت تنتقل طبقا لمنهج من المعلم للصبى مثل النجارة والحدادة.

مع التقدم العلمى والدخول إلى العصر الصناعى والتزايد المتسارع لأعداد السكان بدأت العلوم الطبيعية تقدم فرصا كبيرة للعمل. واحتاجت الصناعة لمهندسين وكيميائيين وجيولوجيين. ولكن هذا التغير الحضارى الكبير لم يأت على حساب العلوم الإنسانية، بل على العكس، منذ القرن الثامن عشر تشكل الكثير من العلوم الإنسانية، واستقل كل علم منها بموضوعه ومنهجه:
علم الاقتصاد والاجتماع والانثروبولوجيا وعلم النفس، وأضيفت إلى علوم سابقة عليها مثل الفلسفة والتاريخ والجغرافيا والسياسة، يجمع بينها أنها علوم مخصصة لدراسة الظاهرة الإنسانية فى جميع تجلياتها.

وإذا كان معرفة أسرار الطبيعة أمراً مهماً للإنسان لأنه يزيد من تمكنه وحريته فإن فهم الظاهرة الإنسانية ليس بأقل أهمية خصوصا لو وضعنا فى الحسبان أن الطبيعة تعمل وفقا لقوانين ثابتة وبالتالى ليس لها تاريخ ومع ذلك لم يصل الانسان لسبر أغوارها، فما بالك بالظاهرة الإنسانية التى تزداد تطورا وتعقيدا كل يوم.

استجابت العلوم الإنسانية للظروف المعرفية الجديدة واستفادت من طريقة العلوم الطبيعية فى النظر لموضوع الدراسة فبلورت لنفسها مناهج ملائمة لدراسة موضوعها وغيرت من أهدافها.

فقد بدأت فى التعامل مع المجتمع على أنه ظاهرة موضوعية تتسم بالتعقد والتطور والمطلوب هو بلورة وعى علمى بها. وانتعشت فى القرن التاسع عشر مدارس تجعل مهمة العلوم الاجتماعية أو الإنسانية هى الكشف عن آليات الاستغلال ورصد مظاهر الاغتراب وتسعى إلى تقديم رؤية نقدية تهدف إلى التحرر الإنسانى، ومدارس أخرى ساد فيها المفهوم الأداتى الذى ينظر إلى العلوم الإنسانية على أنها أداة فى يد متخذ القرار تساعده فى اكتشاف الحل الأمثل للمشكلات الاجتماعية.

المشكلة التى تواجه الرأى العام هى أنه ينتقل بمفهومه عن مصطلح علوم الذى يطلقه على الطب والهندسة والفيزياء ليطبقه على العلوم الإنسانية، أى على الفلسفة والتاريخ والاقتصاد والاجتماع، وهنا يلاحظ تفاوت كبير سواء فى يقينية النتائج أو فى المنفعة الناتجة عنها.

صحيح، فنحن لن نجد عنواناً فى صحيفة يتحدث عن كشف علمى هائل يفوق الخيال اكتشفه عالم الاجتماع فلان أو عالم الاقتصاد علان. وهذا طبيعى لأن التطور الاجتماعى يحدث بطريقة غير محسوسة، ونحن لا ننتبه إلى التغير الاجتماعى إلا عندما تتقدم بنا السن ونقارن حياتنا الاجتماعية فى طفولتنا مع حياتنا فى كهولتنا. هنا تمدنا العلوم الإنسانية بتفسيرات عقلانية وتحررنا من الأحكام الغيبية الشائعة. كأن نقول انهارت الأخلاق، أو الأجيال الجديدة ركبتها العفاريت.

التطور الذى تشهده حضارتنا يجعل من العلوم الإنسانية ضرورة لا غنى عنها، فلمقاومة الجريمة لا يكفى الأمن أو القانون بل ينبغى أيضاً أن يتدخل علم النفس وعلم الاجتماع والتخطيط العمرانى، وكذلك تنفيذ سياسة فعالة للتأمين الصحى لن يقوم بها الطب وحده ولكن بالتعاون مع الاقتصاد والإدارة والسياسة.

قد يقال إن هذا دفاع عن جدوى العلوم الإنسانية. ولكن طالب الثانوية الذى ينشغل ببناء مستقبله لا شأن له بهذه الجدوى، فهو يبحث فى النهاية عن فرصة فى سوق العمل. ولكن من الغريب استحضار معيار سوق العمل فى التعليم الثانوى العام الذى تقوم فلسفته فى جميع الثقافات على أنه منزه عن الغرض لانه يهدف إلى تزويد الطالب بالمعرفة وتكوين وعيه. ولهذا نحن فى التعليم العام ندرس قصائد للمتنبى وتطابق المثلثات لفيثاغورث ومنطق أرسطو وفلسفة ديكارت وفيزياء نيوتن وقصة لطه حسين، ولو حاكمناها بمعيار جدواها المباشرة فى سوق العمل لتخلصنا منها جميعا.

يقول أوليفييه ريبول فيلسوف التربية إن غايتنا من التعليم المدرسى هى أن يوحد ويحرر: يوحد بين الطلاب ويؤهلهم للاندماج فى مجتمعهم ومن هنا أهمية دراسة جغرافيته وتاريخه، ويحرر الفرد بتكوين شخصيته المستقلة وتزويده بمعايير للحكم العقلانى على الأحداث. وهذا ما يجعله يختار على بينة مساره المهنى بعد ذلك. ينبغى أخذ هذه السمات فى الاعتبار عند صياغة البرنامج الدراسى للمرحلة الثانوية وعند تعديله.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية