تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

السياسة بنظرة حديثة

فى حالة الطبيعة، وهى حالة تشير إلى حياة الإنسان قبل نشأة الدولة، يكون الإنسان ذئباَ لأخيه الإنسان وتسود خلالها حرب الجميع ضد الجميع. ولا مخرج من هذا الجحيم إلا بأن تنشأ دولة قوية طاغية تفرض السلام على الجميع. هذا باختصار ما يصل إلينا حينما نكتفى بقراءة كتب الفلسفة المقررة فى مدارسنا وجامعتنا عن الفيلسوف الإنجليزى توماس هوبز الذى عاش فى القرن السابع عشر.

 

الواقع أن هذه الفكرة ليست بالضرورة خاطئة كما أنها أيضاً ليست صحيحة. يمكن القول إنها اختزال مخل يخفى جوانب أخرى في أعمال هوبز عميقة وثرية ومؤثرة فى تاريخ الفكر الفلسفى الحديث.

كما قد يدفعنا ذلك إلى اعتباره نصيرًا للاستبداد. سوء الفهم هذا قد يحدث مع غيره من الفلاسفة لو اكتفينا بقراءة العروض التعليمية المبسطة لأفكارهم. ولهذا ينبغى أن نقرأ مؤلفاتهم الفلسفية نفسها لنقف على حقيقة فكرهم.

ورغم ذلك تظل مثل هذه العروض ضرورية ومهمة لأن فكر الفيلسوف يحيا من خلال الشروح والتعليقات التى تقدم عن مؤلفاته. فقط علينا أن نعى أن هذه العروض تكون أسيرة عصرها الذى كتبت فيه فى حين أن مؤلفات الفيلسوف حينما تكون عميقة تتجاوز العصور.فالكتابة عن الفيلسوف فى القرن التاسع عشر تختلف عن الكتابة عنه فى القرن الحادى والعشرين، لأن كل كاتب ينطلق من أسئلة عصره باحثاً عن إجابات لها فى فكر الفيلسوف.

عاش هوبز فى زمن يتسم بسمتين كان لهما تأثير كبير على فلسفته. السمة الأولى هى أنه عاش فى عالم هزت اعتقاداته نظرية كوبرنيكوس عن دوران الأرض حول الشمس ونظام كيبلر الفلكى وفيزياء جاليليو. السمة الثانية هى الصراعات والحروب الأهلية بسبب الخلافات الدينية التى تمزق بلده إنجلترا.
أراد هوبز أن يقدم تصوراً فلسفياَ متماسكاً ومنسجماَ يبدأ من فلسفة الطبيعة إلى نظرية المعرفة، ثم إلى فلسفة الأخلاق وفلسفة السياسة. بدأ من دراسة الأجسام ويعتبر أن جوهر وجودها هو الحركة الدائمة التى تأتى من تأثير الأجسام الأخرى عليها، وقدم نظرة تفاعلية في المعرفة جاعلاً من خصائص الأشياء مزيجاً من عناصر الأشياء وفاعلية الإدراك البشري. ويطبق هذه النظرة الفيزيائية على الأفراد، فكل فرد من البشر يتحرك ليقترب من الأشياء بدافع الرغبة إذا كانت هذه الأشياء تدعم سعيه فى الحفاظ على حياته، أو يتحرك للابتعاد عنها بدافع الامتعاض إذا كانت الأشياء تمثل خطراً على وجوده. لا ينبغي تسكين الرغبة بإشباعها، فهذا ليس فى صالح الإنسان بل ينبغى للرغبة أن تقود إلى رغبة أخرى أقوى منها ليظل الفرد فى حركة دائمة، وبهذا تصبح حياته رحلة لاكتشاف ذاته.

من هذه العناصر يبنى هوبز تصوره عن الطبيعة والإنسان والسياسة. الإنسان يسعى للحفاظ على حياته وهذه الضرورة تملى عليه أفعاله. وبهذا يقدم مفهوماً جديداً عن الحرية يختلف عن المفهوم السائد فى العصور الوسطى المتعلق بمشكلة الجبر والاختيار، فهو يعرّف الحرية بأنها عدم وجود أى عائق يحول دون تحقيق الفرد لإرادته، وكون إرادته هذه قد فرضتها الضرورة لا يعنى ذلك أن الإنسان غير حر. هذا التصور لعلاقة الحرية بالضرورة يقوم على رفض الثنائية الديكارتية بين عالم الفكر وعالم المادة، فجوهر الموجودات واحد.وهذه العلاقة تفسر أيضاً نشأة الدولة إذ إنها تأسست على إدراك كل فرد من خلال حساب عقلانى بأنه لا سبيل أمامه للحفاظ على حياته إلا من خلال تعاهد مع الأفراد الآخرين على إنشاء سلطة ذات سيادة للفصل فى المنازعات بينهم. وهذه الدولة هى كيان مصطنع، ورغم كل الصلاحيات الممنوحة لها تظل كياناً هشاً.ويعتبرها هوبز إلها فانيا، فهناك أشياء كثيرة قد تؤدى إلى تحلل الدولة مثل عدم كفاءة مؤسساتها، وغياب السلطة، والزعم بأنها ملهمة من الله، والحرب مع دول الجوار، واستقلال ماهو دينى عن القوانين التى تحكم المجال العام.

يميز هوبز بين الحقوق والقوانين، الأولى تعنى الحريات، أما القوانين فهى تعنى القيود وعلى الأفراد معاونة الدولة فى تحقيق التوازن بينها من خلال مؤسسات ديمقراطية.

قدم هوبز رؤية فلسفية متماسكة تتسم بالمادية والفردية والنظرة الإلية، كما تتسم بالعقلانية والعلمانية، ولهذا تعد أعماله من الإنجازات التى تسبر أغوار الظاهرة السياسية وتقدم لها أسسها الوجودية والمعرفية والأخلاقية.

ما قدمته هنا ليس إلا عرضاً لفلسفة هوبز يسرى عليه ما قلته عن العروض فى بداية المقال. كل ما أرجوه ألا يغنينا عن كتب هوبز، بل على العكس يدفعنا إلى قراءتها.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية