تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
التاريخ .. تواصل أم انقطاع؟
نشرت إحدى المجلات منذ بضع سنوات تحقيقا جاء فيه أن أكثر أسماء المفكرين ذكراً فى الإنتاج الفكرى للعلوم الإنسانية على مستوى العالم هو الفيلسوف الفرنسى ميشيل فوكو. ويرجع ذلك إلى أن مؤلفاته تتماس مع تخصصات علمية متعددة : الفلسفة، التاريخ، علم النفس، علم الاجتماع، العلوم السياسية والنقد الأدبى.
ولا نجد عند فوكو مذهبا فلسفيا قائما بذاته ولا رؤية للعالم متكاملة ولكن تكمن جاذبيته فى استخدامه مفاهيم تفتح للبحث العلمى أفاقا غير مسبوقة. يعطى فوكو لهذه المفاهيم معانى أو دلالات تختلف عما هو متعارف عليه، فهو يستخدم مفهوم الخطاب ويميزه عن النص. فالنص يمكن الكشف عن محتواه باستخدام النحو أو المنطق، أما الخطاب فهو يشير إلى ممارسات تصيغ علاقات القوة بالمجتمع.
واعتمد فوكو فى مؤلفاته ذات العناوين المبتكرة مثل تاريخ الجنون ونشأة العيادة وأيضاً المراقبة والعقاب على مفهوم الأرشيف لكنه فى نظره ليس مجموعة من الوثائق القديمة المحفوظة وإنما يشير إلى مجمل القواعد فى فترة تاريخية بعينها تبين لنا لماذا كان يقال شىء ما، ولم تقل أشياء أخرى. الأرشيف الخاص بكل فترة مرتبط بنظام المعرفة الخاص بها أو ما يطلق عليه الابستمية وهى كلمة اشتقها من الفعل اليونانى يعرف، وتعطى شرعية للمعارف فى ذلك الزمان. فى القرنين السابع عشر والثامن عشر ساد مبدأ التصنيف وكان إنتاج المعارف فى جميع العلوم يخضع لهذه الابستمية. أما فى القرن التاسع عشر كانت الابستمية السائدة هى التجريب.
ولكى نبين كيف تعمل الابستمية نستعير مثالاً من مرسيا ألياد عالم الأنثربولوجيا الدينية فهو يرى أن التجريب قد أصبح معيار الحقيقة فى القرن التاسع عشر وأسهم ذلك فى انتشار الاتجاهات المادية فى الفلسفة، وكان على أنصار الاتجاه الروحى الدفاع عن الروح فى مواجهة هجمات المادية. ولما كانت التجربة هى التى تنتج الحقيقة العلمية بحسب الابستمية السائدة ظهرت ولأول مرة فى التاريخ الإنسانى تجارب تحضير الأرواح فى أوروبا أو أمريكا، ولم يكن أحد يتصور ذلك من قبل. كان لدى ابن سينا أدلة على خلود النفس، أما أن يقوم بتجربة لتحضير روح شخص ميت فلم تكن تخطر بباله أبداً هذه الفكرة. كل التراث الروحى ينتمى إلى الشرق وحينما حاول الغرب أن يقدم إسهامه فى هذا التراث اتجه حسب ميرسيا إلياد إلى تحضير الأرواح.
نلاحظ أن مفهوم الابستمية عند فوكو يشبه مفهوم الباراديم أو النموذج الإرشادى عند مؤرخ العلم الأمريكى توماس كون الذى يرى أن هناك نظرية علمية تصبح هى النموذج الذى يتم على غراره إنتاج النظريات العلمية الأخرى حتى تحدث أزمة لهذا النموذج وتتمثل فى تزايد الظواهر التى لا يستطيع تفسيرها ثم يتم التوصل إلى نظرية ذات قدرة أكبر على التفسير فتتحول بدورها إلى نموذج إرشادى جديد يحدد معايير إنتاج النظريات العلمية. حدثت هذه النقلة بين فيزياء نيوتن وفيزياء أينشتاين. المهم أن كليهما فوكو وكون يعتبران أن التاريخ يتقدم من خلال ما يسمى بالقطيعة المعرفية.
الفارق بينهما هو أن كون يقتصر على تاريخ العلم وفوكو يتحدث عن تاريخ المعرفة، كما أن كون يهدف إلى الكشف عن أسباب حدوث أزمة فى النموذج الارشادى السائد وآليات الانتقال بفضل جهود العلماء لنموذج آخر. أما مع فوكو فليس بإمكاننا معرفة سبب الانتقال من ابستمية إلى أخرى، فنحن لا ندرى لماذا تظهر كما أنها حسب تعبيره تختفى فى ظروف غامضة.
هكذا نلاحظ أن فوكو يستبعد من مجال التاريخ أوهاماً راسخة مثل وهم الاستمرارية والاتصال وكذلك وهم خضوع التاريخ للإرادة. فالإنسان يولد ليجد نفسه بلا إرادة فى اختيار حياته، فلا دخل له فى تكوينه البدنى ولا ملامح شخصيته وحتى اللغة التى يستخدمها للتعبير عن مشاعره الحميمة لم يضع لها قواعد النحو ولا معانى الكلمات وفى نشاطه ينخرط فى عمل لم يحدد هو مواعيده ولا الغاية منه.
ولهذا فالبحث الفلسفى لديه لا يهتم بتصورات البشر ولكن بما يعملون والطريقة التى يعملون بها، وبالتالى ينصب على ثلاثة مجالات كبرى: علاقات التحكم فى الأشياء (المعرفة) وعلاقات التحكم فى الآخرين (السلطة) وعلاقات التحكم فى الذات (الأخلاق).
الجمع بين التاريخ والفلسفة عند فوكو يحاول الإجابة عن سلسلة مفتوحة من الأسئلة: كيف تكونا نحن كموضوعات لمعرفتنا، وكيف تكونا كأشخاص يمارسون أو يتعرضون لعلاقات السلطة، وكيف كونا أنفسنا كذوات أخلاقية لأفعالنا؟.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية