تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

ثقافة الكومباوندز

فى ١٩ مارس الماضى، وعلى صفحات جريدة الأهرام، نشرت مقالا بعنوان: ماذا وراء الاسوار العالية؟ تحدثت فيها عن ظاهرة الامتداد العمرانى فى مصر واتجاهها نحو التخوم الصحراوية وارتباطها بترحال الأثرياء وأصحاب النفوذ للتمركز فى الكومباوندز، وهى ظاهرة فريدة لم تخبرها مصر من قبل, وفى المقابل تضاءل وهج الأحياء الراقية فى مصر - وتاريخها يرتبط بمطلع القرن العشرين- وذلك تحت ضغط التلوث السمعى والبصرى والبيئى، الذى دفع السكان الى الترحال.

فى هذا المقال نتابع مناقشة هذه الظاهرة والتى أصبحت - فى ثلاثة عقود فقط - تقترب من ٨٠٠ كومباوند، بعد ان كانت فى الثمانينيات لاتزيد على أصابع اليد الواحدة، ونحن هنا نحث الجماعة الاكاديمية على الاهتمام بهذا الموضوع، والذى لم يحظ بالاهتمام اللائق ونروج ايضا لاعتماد نهج بحثى شامل، يتكامل فيه علم الاجتماع مع علم النفس، مع السياسة والاقتصاد والقانون، ومع جغرافيا المكان ومحركات الامتداد العمرانى.

ولعل السؤال المهم الذى نسعى للاجابة عنه هو ماهى سلطة المكان، وبمفهوم علم اجتماع المكان، التى اكسبت الكومباوندز قوة لاجتذاب أصحاب الثروات فى مصر فى السنوات الأخيرة، وصنعت للناس الحلم لتحقيق الحياة المثالية، او اليوتوبيا ، وهو الأمر غير الصحيح فى الواقع؟.

إن سلطة المكان فى هذا السياق ،تعنى تميز مكان ما - وهو هنا الكومباوند او المجمع السكنى المسيج - بحالة من الهدوء والخصوصية والجمال، وحالة من التميز تجعل له سلطة على البشر الذين يعيشون فيه، وهنا فان الأسوار العالية حول المكان، يصبح لها معنى داخل مجتمع المعزولين من اعلى. هى رمز للمكانة الاجتماعية التى يحظى بها السكان او الملاك، والتى أصبحت فى مصر الآن قيمة تستدعى الفخر، وتعلن عن أسلوب حياة متميز.

هذا الفخر والانتماء للمكان، ترجمته الواقعية كانت سداد الملايين للحصول على وحدة سكنية والحياة داخل مناطق الجمال المصنوع، وفى الصحراء. لقد كان تنامى مبيعات اكبر عشرين شركة تطوير عقارى فى مصر عام ٢٠٢٣ الى ٢٨٠ % عما كانت عليه فى العام الذى سبقه، ورغم ارتفاع أسعار مواد البناء فى إطار التحديات الاقتصادية التى شهدتها مصر، وبالتالى تضاعف الأسعار خاصة فى القاهرة الجديدة، يقول لنا ان سلطة المكان هذا كانت طاغية ، فقد اتجه الأثرياء بقوة لاستثمار مدخراتهم فى مكان آمن، وانخفضت ثقتهم فى المؤسسات الاقتصادية الرسمية ( تغير الوضع قليلا فى مارس ٢٠٢٤ بعد صفقة رأس الحكمة واتفاقية الصندوق وتحرير سعر الصرف).

سلطة المكان على سكانه، تبدو بكل وضوح فى تضامن الغالبية العظمى منهم للحفاظ على استدامة جمال ونظافة هذا المكان وسداد قيمة الصيانة السنوية له، والتى ارتفعت حوالى 50% عام ٢٠٢٤، واذا قارنا هذا الوضع بمثيله فى أحياء راقية مثل الزمالك والمعادى وغيرهما، سوف ندرك الفارق فى التوافق حول سداد التزامات الصيانة. ففى الحالة الأخيرة رفض وصراعات وجدل حول القيمة المالية بينما فى حالة الكومباوندز يبدو التزام الغالبية العظمى لسببين. اولهما وجود قواعد قانونية واضحة معلنة يوقع عليها الملاك مع تسلم عقد التمليك.
ثانيهما موافقة الملاك سنويا فى اجتماع الجمعية العمومية (تعقد بحكم القانون) على ميزانية العام الأسبق- والتى ترسل إلى كل السكان وموازنة العام الجديد بكل تفاصيلها.

وفى هذا السياق تبدو الشفافية والنزاهة وحق الجميع فى إبداء الآراء والاختلاف ثم التوافق. بعبارة أخرى مباشرة تتحقق وراء الأسوار العالية ممارسة ديمقراطية وحوكمة رشيدة (مجلس الأمناء والشركة المفوض لها الإدارة من جانب والملاك من جانب آخر).

إذن احد أبعاد سلطة المكان فى هذه المجمعات السكنية المسيجة، ترتبط بوجود مراكز ديمقراطية وراء الأسوار لا يعرف الكثيرون تفاصيلها، خاصة تطبيق مبادئ الشفافية والمساءلة والمحاسبية.

ان سلطة المكان التى نتحدث عنها تمتد بالطبع الى الحياة الشخصية للسكان وراء الأسوار ،تتمثل فى توافر الحرية والخصوصية والاستقلالية، فى السلوك الشخصى والملبس واسلوب الحياة، وفى اختيار لغة الحديث - وعادة تكون اللغة الانجليزية - وفى الثقافة، وهى مهجنة تجمع بين المحلية والثقافة المعولمة.

ان سلطة المكان على من يعيشون فيه تتواجد بفعل التعليم والوعى والموقع الوظيفى وبالطبع الدخل، وتستحق إجراء دراسات مقارنة، نستدل منها على المواطنة والانتماء ومصدر سلطة المكان على اى مجموعة بشرية.

ويرتبط بما سبق أن ذهب اليه بعض علماء الاجتماع الغربيين، الذين أشاروا الى أن الفئات الرأسمالية فى سعيها نحو تراكم الارباح، هى التى تحتفظ بسلطة المكان، فهى تختار نوعيات البشر الذين يعيشون فى المكان، وتصنع تخطيطا عمرانيا لصالحها ولصالح أصحاب النفوذ والثروات. وهذه الفئات الرأسمالية، التى تتمسك بذريعة الارتقاء العمرانى، هى التى أسهمت فى بلورة ظاهرة جديدة، وهى الاقتصاد الاستعراضى، ومن ثم أصبح لدينا نوعان من البشر: نحن وهم.

ـ أستاذة الاجتماع السياسى

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية