تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د. أسامة السعيد > شراكات استراتيجية من أجل المستقبل

شراكات استراتيجية من أجل المستقبل

يُجيد الدنماركيون صيد الأسماك وارتياد البحار، ويحرصون بكثافة على قيادة الدراجات الهوائية، فعدد الدراجات التى تجوب شوارع العاصمة كوبنهاجن يفوق بكثيرٍ عدد السيارات، رغم أن الشعب الدنماركى واحدٌ من أغنى شعوب الأرض، ويُمكنه اقتناء أفخر أنواع السيارات، لكنهم اختاروا الدراجات الهوائية وسيلةً للتنقل؛ حفاظًا على صحتهم وعلى البيئة.

هذا الملمح من حياة الشعب الدنماركى يُمكنه أن يُعطينا فكرةً مبسَّطةً عن طبيعة تفكير هذا الشعب العملى، فكل شىء هنا يجرى وفق حسابات المكسب والخسارة والمصالح المُتبادلة، وربما هذا التفكير العملى، وهو من سمات الشعوب المتقدمة، هو ما مكَّنهم من إنجاز الكثير من النجاحات فى حياتهم وفى شراكاتهم الدولية، فالشعب الذى يتجاوز تعداد سكانه الستة ملايين بقليل لديه واحدٌ من أقوى اقتصادات العالم، فضلًا عن امتلاكه العشرات من كبرى الشركات الرائدة عالميًا، والتى يتجاوز حجم أعمالها ميزانيات دولٍ بأكملها.
 

أحفاد الفايكنج الذى جابوا بحار أوروبا على مدى قرونٍ قديمًا، واشتهروا باعتبارهم مقاتلين أشداء أرادوا ترويض الطقس شديد البرودة الذى يصل حد التجمّد لعدة شهور من العام، استطاعوا فى تاريخهم الحديث والمعاصر أن يصنعوا لأنفسهم مسارًا لبناء علاقات وطيدة مع العديد من دول العالم، اعتمادًا على شراكات اقتصادية ناجحة ومساهمات فى مجالات الصحة والتعليم والطاقة.

■ ■ ■

ورغم الطابع العملى الذى يمتاز به الدنماركيون ويغلب على معظم مظاهر حياتهم، إلا أن ذلك لم يحل دون تنظيمهم استقبالًا حافلًا ومشهودًا للرئيس عبد الفتاح السيسى فى أول زيارة لزعيم مصرى إلى الدنمارك التى تجمعها علاقات ثنائية مع مصر منذ أكثر من قرن كامل.

الاستقبال الذى جرت وقائعه بقصر أمالينبورج تؤكد كل تفاصيله حجم الاحتفاء والتقدير الدنماركى للزيارة التاريخية، وهو مشهد استهوى عشرات المواطنين الدنماركيين الذين اصطفوا على جنبات ساحة القصر الملكى؛ ليتابعوا مُجريات الاستقبال الحافل، سواء باستعراض حرس الشرف أو مشهد عشرات الخيول التى أحاطت بالعربة الملكية، التى اصطحب فيها الملك فريدريك العاشر ضيف بلاده الكبير، قبل بدء جلسة المباحثات الرسمية، فى مشهد رمزى يعكس حجم الحفاوة، والاهتمام على مختلف المستويات بأهمية الارتقاء بالعلاقات بين البلدين إلى مستويات جديدة.

■ ■ ■

زيارة الرئيس السيسى إلى كوبنهاجن تشهد توقيع اتفاق للشراكة الاستراتيجية بين مصر والدنمارك، لتضيف مزيدًا من رصيد الشراكات الاستراتيجية التى تمتلكها القاهرة مع أبرز عواصم العالم، فمصر حاليًا شريك استراتيجى للعديد من القوة الفاعلة على الساحة الدولية مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، وكذلك لديها علاقات استراتيجية مع الاتحاد الأوروبى، وشهدت الأشهر الأخيرة توقيع اتفاقيات للشراكة الاستراتيجية مع كل من تركيا والبرازيل.

هذه الشراكات الاستراتيجية التى تُمثِّل ثمرة نجاح للدبلوماسية الرئاسية النشطة تعكس حجم ما باتت تتسم به السياسة المصرية من قدرةٍ على تحقيق التوازن فى بناء وهندسة علاقاتها مع العالم، فى عصر يعانى من استقطابات حادة، وتنافس إقليمى ودولى محتدم، يجعل من الحفاظ على توازن العلاقات مع مختلف الأطراف المتنافسة أمرًا صعبًا، لكن القاهرة نجحت فيه باقتدار وباحترافية عالية ضمنت لها حضورًا أوسع وأعمق على الساحة الدولية، وفى توقيت بالغ الدقة والحساسية، يقف فيه العالم مشدود الأعصاب، بينما أصابع عديدة حول العالم على الزناد، وبعضها بدأ بالفعل فى إطلاق الرصاص!

■ ■ ■

الشراكة الاستراتيجية الجديدة بين مصر والدنمارك يمكن أن تحمل كثيرًا من المكاسب المُتبادلة، خاصة فى المجالات الاقتصادية، فالدنماركيون لديهم خبرات واسعة فى العديد من القطاعات الواعدة والتى يمكن أن يُمثِّل التعاون فيها قيمةً مضافةً للبلدين، فلدى الدنماركيين خبرات كبيرة فى مجال الشحن البحرى من خلال تصميم أكبر سفن الحاويات فى العالم وأكثرها كفاءةً فى استخدام الطاقة، ولديهم تطلعات مهمة لتعزيز شراكتهم مع مصر والاستفادة من موقعها الاستراتيجى؛ لتكون مركزًا لوجستيًا عالميًا لخطوطهم الملاحية.

كما تمتلك الدنمارك مصادر كبيرة من النفط والغاز فى بحر الشمال، علاوةً على كونها من الدول الرائدة فى توليد طاقة الرياح، ولديهم اهتمام خاص بالمخطط المصرى للتحول إلى مركز عالمى للطاقة المتجددة وإنتاج الهيدروجين الأخضر، ولدى المؤسسات والشركات الدنماركية برامج مهمة لتمويلات ميسَّرة لمشروعات الطاقة المتجددة، يمكن أن تكون أساسًا للبناء عليه وخدمة الشراكة المستقبلية.

ويُضاف إلى ذلك خبرات وإنجازات دنماركية كبيرة فيما يسمونه هنا «علوم الحياة»، والتى قادتهم لصناعة أدوية رائجة عالميًا لأمراض السكرى والأورام، وهو ما وفَّر دخلًا هائلًا يُقدَّر بمئات المليارات من الدولارات سنويًا للشركات المنتجة لتلك الأدوية، ويُمكن لصناعة الدواء المصرية وبخاصة فى ظل الاهتمام الذى تُوليه الدولة بهذا المجال أن تُحقق مكاسب كبيرة تُوفِّر نقلة نوعية وتفتح أمام البلدين مجالات أوسع لدخول أسواق أفريقيا ودول بريكس، لا سيما مع انضمام مصر للتجمع الصاعد عالميًا.

■ ■ ■

من يتأمل خطوط التحرك المصرى على الساحة الدولية شرقًا وغربًا، يُمكنه أن يستشف بسهولة الرؤية الكامنة وراء تلك التحركات، فبوصلة تلك التحركات الواعية والمكثَّفة تتجه دائمًا نحو بناء المستقبل والتركيز على الدول التى يُمكن لمصر أن تُحقق قيمةً مضافةً من خلال التعاون معها، فعالم اليوم لا يعترف سوى بالأقوياء، وبناء القدرات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية يُمثِّل أولويةً فى المشروع المصرى لبناء قدرات الدولة الشاملة، وهو ما تُحقِّق القيادة السياسية فيه خطوات واثقة إلى الأمام ونجاحات مستمرة كل يوم.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية