تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

إفريقيا فى مفترق طرق

قبل عدة أسابيع أنهيتُ قراءة كتاب «العالم فى 2050: كيف نفكر فى مستقبل العالم؟» للكاتب البريطانى هاميش ماكري، وهو واحد من أبرز المتخصصين فى استشراف المستقبل بناء على حقائق وسيناريوهات علمية.


الكتاب تضمن العديد من الحقائق الكفيلة بأن تغير من نظرتنا إلى الواقع، فضلاً عن أنها تفسر العديد من التحركات الدولية الراهنة التى لا تبدو مفهومة لكثيرين، ومنها ما يتعلق بالتنافس الدولى على قارة إفريقيا.

أهم ما يتضمنه الكتاب عن القارة السمراء أنها بالفعل لن تكون فقط الخزان الطبيعى للموارد فى العالم بعد ربع قرن، بل ستكون أيضًا معينًا بشريًا متدفقاً تحتاجه دول وقارات ستصيبها الشيخوخة فى العقود المقبلة، طبعًا فى مقدمتها أوروبا، بل إن الولايات المتحدة واليابان، بل والصين نفسها لن تكون خارج دائرة ذلك الخطر المستقبلي.

خلال العقود المقبلة ستتمتع إفريقيا بأكبر معدل للنمو البشري، وستكون مواردها الإنسانية مطمعًا لكثيرين تمامًا مثل مواردها الطبيعية، ولعل العديد من الحقائق عن تلك القارة السمراء التى باتت أكثر مناطق العالم تعرضًا للظلم سواء على يد الاستعمار القديم أو الاستعمار الجديد الأشد خطرًا والأفدح تأثيرًا، فالقارة السمراء هى قارة المتناقضات بامتياز، فهى أغنى القارات بالموارد الطبيعية ويعيش على أرضها أفقر شعوب العالم!

هناك 60 فى المئة من أراضى القارة صالحة للزراعة، لكن 6 فى المئة فقط من تلك المساحة مستغل، بينما نحو ربع الأفارقة معرضون لشبح المجاعة (!!) وفى حين أن استثمار أراضى دولة واحدة من دول القارة مثل الكونغو الديمقراطية يكفى لإطعام مليارى إنسان أى أكثر من تعداد كل سكان إفريقيا وأوروبا، فإن كثيرًا من شعوب القارة يعيش على واردات الحبوب التى تأتى من الخارج!!

وقد لا يتسع المجال للحديث عن ثروات القارة السمراء فى الطاقة بجميع أنواعها أو المياه العذبة، أو المعادن الثمينة التى باتت محل صراع عالمى محتدم حاليًا، حيث تحوز إفريقيا ثلث احتياطى الثروات المنجمية فى العالم، ونحو 40 فى المئة من الذهب، وحوالى 90 فى المئة من البلاتين والكروم، إضافة إلى أنها تضم خمس احتياطى الماس، إضافة إلى أنها المصدر الأهم لليورانيوم، وقد صارت مساعى السيطرة على تلك المعادن عاملاً حيويًا فى إشعال تنافس دولى محموم.

■■■
هذه الحقائق وغيرها الكثير قد تفسر لماذا يعتبر العالم إفريقيا «قارة المستقبل»، ولماذا كل هذا التكالب والتنافس الدولى على القارة، سواء عبر أدوات القوة الخشنة أو القوة الناعمة. ولماذا تحولت إفريقيا إلى أكبر دولة مستقبلة للاستثمارات العالمية، لكنها فى الوقت ذاته تعيش واقعًا صعبًا على وقع الأزمات، كما تدفع ثمنًا فادحًا لاختلال موازين العدالة فى العالم.

نعم، دول القارة تدفع فاتورة مثقلة بالأعباء جراء التدخلات الدولية غير الحميدة فى شئونها، وكذلك نتيجة اختلال المعايير الدولية فى التعامل مع واقع القارة، ففى معظم الأحيان تقف إفريقيا موقف المفعول به بدلاً من أن تكون فى موقع الفاعل حتى فى القضايا التى تتعلق بأهم مصالحها، فعلى سبيل المثال تدفع القارة ثمنًا فادحًا جراء تغير المناخ العالمي، رغم أنها أقل قارات الأرض إسهامًا فى إنتاج التلوث.

وبينما تجنى القوى الصناعية الكبرى أرباحًا طائلة جراء نهضتها الصناعية دون أن تلقى بالاً للتداعيات الكارثية التى تسببها انبعاثاتها الملوثة للبيئة، تواجه إفريقيا وحيدة مخاطر التصحر وغرق الشواطئ، وتقف منها مؤسسات التمويل الدولى موقفًا مزدوجًا بل ومتعنتًا أحيانًا، فترفع تكلفة الاقتراض لبناء التنمية فى القارة، مقابل تخفيضها لصالح الدول الغنية التى لا تحتاج إلى ذلك الاقتراض بالأساس! دون إدراك لحجم المسئولية التاريخية على دول الاستعمار التى أقامت نهضتها بامتصاص موارد القارة دون تقديم اعتذار أو تعويض الدول التى نُهبت ثرواتها خلال تلك الحقبة المظلمة من تاريخ العالم.
■■■
اليوم تقف إفريقيا فى مفترق طرق حقيقي، تواجه أزمات داخلية، وارتفاعًا لمعدلات الفقر والجوع والتضخم، وانتشارًا مقلقًا لجماعات التطرف والإرهاب، وتوسعًا لرقعة شركات المرتزقة التى باتت تهدد أمن واستقرار القارة، دون أن تجد الدول الإفريقية سندًا حقيقيًا يدعم طموحها الشرعى فى بناء تنمية وطنية تتناسب وقدراتها الطبيعية والبشرية.

لذلك تحاول إفريقيا أن تسرع خطواتها لتعويض «الزمن الضائع» من عمر شعوبها، التى أنهكتها الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية. وبات هناك إدراك عميق لدى دول القارة بضرورة الاتحاد والعمل المشترك لمواجهة الأزمات المتراكمة والصراعات البينية المصطنعة بين أبناء القارة لتفتيت قوتهم واستنزاف قدرتهم.

وهنا يأتى دور الدول الإفريقية الوازنة وذات الحضور القارى والدولى الفاعل لقيادة هذا العمل الشاق. وكما كانت مصر فى صدارة الدول التى قادت طموح القارة السمراء نحو الاستقلال وبناء مؤسسات للعمل الإفريقى المشترك، وتجسد ذلك بمشاركتها فى تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963، ودعمها لحركات التحرر الوطنى فى معظم دول القارة، فإن عليها اليوم واجبًا مضاعفًا تجاه دول القارة: واجبًا يفرضه الماضى وآخر يحتمه المستقبل، فالتاريخ صنع لمصر مكانًا فى قلوب الأفارقة ينبغى علينا استثماره وتعظيمه، لكن الزمن تغير والأدوات اختلفت، وهنا يأتى دور مصر كدولة رائدة ولديها رؤية وطنية مستقبلية لنهوض الشامل وبناء قدرات الدولة لكى توسع من نطاق تحركها ليشمل الإطار القاري.

■■■
والحقيقة أن مصر ومنذ عام 2014 قطعت شوطًا طويلاً فى هذا المسار، فاستعادة الحضور الإفريقى على قمة أولويات أجندة السياسة الخارجية المصرية كان إنجازًا يستحق الإشادة والتقدير للرئيس عبد الفتاح السيسي، الذى أعاد إطلاق وتفعيل الدور المصرى فى القارة، وأبدى التزامًا لم يتزعزع بالسير قدمًا فى هذا الطريق، فلم يتلفت للعقبات ولا محاولات التشويش، الأمر الذى ساهم فى تعزيز مكانة مصر كقائدة لمسار العمل الإفريقى، وجعل منها صوتًا قويًا للقارة فى العالم.

ولعل زيارة الرئيس السيسى الراهنة إلى مالابو، عاصمة غينيا الاستوائية، للمشاركة فى الدورة السابعة لاجتماع القمة التنسيقى لمنتصف العام للاتحاد الإفريقى، تمثل محطة إضافية فى مسار ممتد من تعزيز الحضور المصرى فى القارة السمراء، فنظرة إلى خريطة التحرك المصرى فى إفريقيا تكشف بما لا يدع مجالاً للشك مدى ما باتت تحتله القارة من مكانة على أجندة القيادة السياسية.
اقترب عدد زيارات الرئيس السيسى إلى دول القارة من 40 زيارة، وهو عدد يماثل أو يزيد على عدد زياراته لدول القارة الأوربية، الأمر الذى يعكس حجم الاهتمام والإدراك على مدى أكثر من عقد كامل بأهمية توزيع الأوزان النسبية لتحركات الدبلوماسية الرئاسية بتوازن دقيق بين الشمال والجنوب تعظيمًا للمكاسب الوطنية فى الاتجاهين.

يُضاف إلى ذلك أن الرئيس السيسى زار كل أقاليم القارة دون استثناء، وكان عدد كبير من تلك الزيارات هى الأولى من نوعها لزعيم مصرى على الإطلاق، فى دلالة واضحة على حجم ونوع التحرك المصرى ومستهدفاته الاستراتيجية بفتح آفاق جديدة وطرق أبواب غير مسبوقة فى أرجاء القارة الشاسعة.

■■■
وعلاوة على الزيارات الرئاسية التى باتت من أهم أدوات صناعة وتعزيز دور الدبلوماسية المصرية، فإن القاهرة لم تدع فرصة لدعم حضورها فى القارة واستثمار قدراتها لخدمة قضايا القارة إلا وأفادت منها، فكانت مصر صوت إفريقيا حقًا فى العالم، وتحدث الرئيس السيسى شخصيًا، ومعه كل أدوات الدبلوماسية الرسمية والشعبية بلسان القارة فى مختلف المحافل الدولية.
احتضنت القاهرة عملاً جادًا لتحقيق الأمن الغذائى لدول القارة، كما قدمت خبراتها وقدراتها بصدر رحب لتعزيز السلم والأمن الإفريقى، سواء عبر المشاركة الواسعة فى بعثات حفظ السلام، أو بتدريب مئات وربما آلاف الكوادر من مختلف دول القارة على مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، أو من خلال دعم عشرات المبادرات الجادة للحد من الصراعات ومنها مبادرة «إسكات البنادق» التى حظيت بدعم مصرى كبير خلال رئاسة القاهرة للاتحاد الإفريقى قبل 5 سنوات.

تحتاج مصر إلى إفريقيا بنفس القدر الذى تحتاج به إفريقيا إلى مصر، وهو ما يحقق دبلوماسية «المكاسب للجميع» التى تتبناها القاهرة وتحرص على تحويلها إلى واقع، فتنتهج لحماية مصالحها مسارات التفاهم والتعاون، لتتجاوز العديد من العقبات سواء الطبيعية أو المصطنعة من جانب بعض الأطراف التى لا تريد اتساع رقعة التحرك المصرى فى القارة.

لكن المؤكد أن النجاحات والإنجازات التى حققتها الرؤية والإرادة والتحركات المصرية الواعية والنشطة فى التعاون مع دول القارة تجعلنا على يقين بأن المستقبل أفضل وأن فرصًا واعدة تلوح فى الأفق.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية