تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
مذكرات محمد فايق (٢ ــ٢)
كانت حياة السيد محمد فايق سلسلة متصلة من النجاح، فهو الطالب الذى تفوق فى جميع مراحل دراسته إلى أن أصبح من أوائل خريجى الكلية الحربية، وبعد أن اختار سلاحه رُشح لبعثة فى انجلترا للحصول على شهادة أركان حرب، واختير فى الوقت نفسه لدراسة الهندسة العسكرية فى الخارج للحصول على درجة الدكتوراه، وفى ذروة حيرة الاختيار صدر قرار تعيينه فى المخابرات الحربية الذى غير مسار حياته ليضطلع بدوره التاريخى فى مصر وإفريقيا، وبالإضافة إلى سمة التفوق مثلت القدرة على الصمود فى مواجهة الشدائد سمة أخرى، ولا أدل على ذلك من محنة السجن التى بلور لنفسه فيها فلسفة لمقاومة السجن تمثلت فى القراءة بل وتأليف كتابه عن «عبدالناصر والثورة الإفريقية»، وممارسة الرياضة وبعض الأعمال اليدوية النافعة كالفلاحة،
ولعل شجرة التوت التى زرعها فى حديقة السجن وأكل ورفاقه من ثمارها مازالت قائمة تشهد على إرادته الصلبة. وقد جعلته وطنيته الفائقة يتوقف دائمًا عند نماذج للوطنية المصرية، بدءًا بنماذج الأبطال من أبناء بور سعيد الذين قاتلوا العدوان ١٩٥٦مع ضباط الصاعقة والمخابرات العامة، ووصولًا إلى فنانى مصر الكبار مثل أم كلثوم التى استجابت فورًا لطلبه بعد عدوان ١٩٦٧بإعداد أغنية قصيرة عن مصر تحرك الشباب وتعطى الأمل، فانتقت أبياتًا من شعر إبراهيم ناجى فى أقل من ساعة ليلحنها العبقرى رياض السنباطى فى يومين، كذلك اتصل بالشاعر الفنان الفيلسوف صلاح جاهين لإعداد أغنية عن العدوان الإسرائيلى على مدرسة بحر البقر ليجده قد انتهى من كتابة أغنيته الشهيرة «الدرس انتهى لموا الكراريس» فيلحنها المبدع سيد مكاوى، وتسيل دموع شادية أثناء التسجيل على الورقة التى كتبها جاهين بالحبر الأسود، وتغمرها بلون الحداد.
وسوف يجد القارئ الكريم فى هذه المذكرات روايات تفصيلية صادقة لبعض القضايا التى لعب فيها دورًا قياديًا وأولاهما تحرير إفريقيا، فقد أصبحت القاهرة قلعة للتحرر الإفريقى الذى كان صاحب المذكرات رئيس أركان عبدالناصر فى إنجازه، ومن خلال هذا الدور حظى بمكانة غير مسبوقة فى إفريقيا، وعندما حضر نيلسون مانديلا إلى القاهرة بعد الإفراج عنه لم يذكر فى محاضرته بجامعة القاهرة سوى اسمين هما جمال عبدالناصر ومحمد فايق، وكان قد وافق على برنامج الزيارة مع إضافة بند واحد هو لقاء السيد محمد فايق، كما دعاه روبرت موجابى رئيس زيمبابوى ليكون ضيف الشرف الوحيد فى احتفالات عيد الاستقلال١٩٩٢، ومن الأمور التى تدل على أصالة الدعم المصرى لإفريقيا ما حدث بعد عدوان١٩٦٧من طلب الرئيس النيجيرى الدعم من مصر لمواجهة الحركة الانفصالية فى بيافرا.
وقد بدأ السيد محمد فايق عمله كوزير للإرشاد القومى آنذاك باستقبال فيروز إيمانًا بمكانتها وتأكيدًا لاهتمامه بالفن والفنانين العظام، وحفل سِجِله بإنجازات متميزة كتعيين مراسلين للإذاعة فى الخارج لأول مرة، وإنشاء المركز الصحفى بالوزارة، وتعيين أول متحدث رسمى لمصر،
وقد قُدر له أن يؤدى عمله فى ظروف بالغة الصعوبة بعد عدوان يونيو١٩٦٧وتنحى عبدالناصر ووفاته، ثم تطور العلاقة مع السادات التى انتهت بأحداث مايو ١٩٧١، ومن الإنجازات التى يعتز بها كثيرًا نجاحه فى تطوير وكالة أنباء الشرق الأوسط إلى الحد الذى أفضى لإغلاق وكالة الأنباء العربية التى كانت تتبع المخابرات البريطانية، ففى سبتمبر ١٩٦٧طلب توم ليتل مدير الوكالة مقابلته، وقال له إنه يحمل خبرًا أتعسه كثيرًا، لكنه سوف يسعده، وهو صدور تعليمات من لندن بإغلاق الوكالة، لأنها لم تعد قادرة على منافسة وكالة أنباء الشرق الأوسط.
وتفند المذكرات ما عُرف بثورة مايو ١٩٧١وتكشف الملابسات المرتبطة بها، ومهزلة المحاكمات التى تمت والأحكام التى صدرت بعد أن أُحيلت القضية للمدعى العام الاشتراكى عقب أن أكد القضاء المصرى الشامخ نزاهته ورأى ألا وجه للاتهام فى القضية، كذلك تضم المذكرات معلومات جديدة عن المهام التى قام بها صاحبها بتكليف من الرئيس حسنى مبارك الذى كانت تربطهما علاقة زمالة قوية منذ الدراسة فى الكلية الحربية، وقد استعان به فى عديد من المهام لاستعادة علاقات مصر العربية فزار سوريا والجزائر وليبيا والتقى ياسر عرفات، وحقق أقصى النتائج التى كانت تسمح بها الظروف آنذاك، ويجد القارئ الكريم تفاصيلها فى المذكرات، ناهيك بفائدتها فى معرفة المزيد عن توجهات مبارك.
ولا تخلو هذه المذكرات الرصينة من وقائع بالغة الطرافة أكتفى هنا بذكر ما وقع أثناء رئاسته للجنة تصفية الاستعمار المنبثقة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان مقعد الوفد المصرى إلى جوار الوفد البريطانى، وفى أحد الاجتماعات بالغ المندوب الاسترالى فى الإصلاحات التى تقوم بها بلاده لتأهيل شعب غينيا الجديدة للاستقلال، فإذا برئيس الوفد البريطانى (اللورد كارادون صاحب القرار ٢٤٢ الشهير ولم يكن قد حصل على اللقب بعد) يرسل له ورقة صغيرة مكتوبا فيها بالعربية «القرد فى عين امه غزال»، ونشأت بين الرجلين لاحقًا علاقة وثيقة، ويُذكر له أنه استقال من منصبه بعد ذلك احتجاجًا على تواطؤ حكومته مع الحكومة العنصرية لروديسيا الجنوبية فى إعلان الاستقلال من جانب واحد.
أخيرًا كتب هذا المناضل الفذ مذكراته لتكون تسجيلًا أمينًا صادقًا لعطائه لوطنه مصر وقارته الإفريقية وأمته العربية، وسوف تكون هذه المذكرات وثيقة بالغة الأهمية على مرحلة اضطلع فيها بأدوار تاريخية حقق من خلالها إنجازات لا تُمحى، فاللهم اجزه خير الجزاء عن وطنه وقارته الإفريقية وأمته العربية.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية