تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

محاكمة إسرائيل «١»

اتساقًا مع وفائها لتاريخها البطولى فى نضال شعبها ضد النظم العنصرية، وقيمها الأصيلة التى أُسست على هذا النضال كان لحكومة جنوب إفريقيا فضل السبق والمبادرة بعرض ملف الجرائم التى ارتكبتها إسرائيل فى حربها الحالية على الشعب الفلسطينى على القضاء الدولى، وليس هذا بجديد على البلد الذى ضرب شعبه أروع الأمثلة فى النضال بكل الوسائل العسكرية والمدنية ضد واحد من أعتى النظم الاستعمارية الاستيطانية العنصرية فى التاريخ!

 وقد يذكر القارئ الكريم أن جنوب إفريقيا كان لها الفضل مع الجزائر الشقيقة فى إحباط محاولة إكساب إسرائيل وضع المراقب فى الاتحاد الإفريقى، وقد زودنى الأخ العزيز والفقيه القانونى الكبير الدكتور على الغتيت مبكرًا بالترجمة العربية لمذكرة الدعوى التى قدمتها حكومة جنوب إفريقيا لمحكمة العدل الدولية، ويدرك من اطلع عليها مدى الجهد القانونى والسياسى الذى بُذِل فى إعدادها بحيث أصبحت فى تقديرى وثيقة شاملة غير مسبوقة تشهد على جريمة إسرائيل بحق شعب فلسطين منذ بدأ انتقامها الذى لا تسعفنا الكلمات لوصف مدى بشاعته ولا إنسانيته مهما بالغوا وكذبوا بشأن هجوم ٧ أكتوبر الماضى.

ولا أعتقد أن أى باحث فى تفاصيل هذه الجريمة سيكون بحاجة مع هذه الوثيقة لمصدر إضافى لتوثيق جرائم إسرائيل الأخيرة، ويُلاحظ منذ الوهلة الأولى تحوط من أعدوا المذكرة للحجة التى لا يمل الإسرائيليون والمدافعون عن وجهة نظرهم من ترديدها وتكرارها، وهى أن ما تفعله إسرائيل إنما هو عمل من أعمال الدفاع عن النفس يأتى كرد فعل لما قامت به «حماس» فى ٧ أكتوبر، ولذلك سجلت المذكرة منذ البداية إدانتها القاطعة جميع انتهاكات القانون الدولى من جانب جميع الأطراف، بما فى ذلك الاستهداف المباشر للمدنيين الإسرائيليين وغيرهم من المواطنين، وأخذ الرهائن من جانب حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية المسلحة! غير أن المذكرة استدركت بأنه لا يمكن لأى هجوم مسلح على إقليم دولة ما، مهما تكن خطورته، حتى لوكان ينطوى على جرائم فظيعة أن يوفر أى مبرر أو دفاع عن انتهاكات اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام ١٩٤٨!

كذلك وضعت المذكرة أعمال الإبادة الجماعية التى تتهم إسرائيل بارتكابها فى السياق الأوسع لسلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين خلال فترة الفصل العنصرى التى دامت ٧٥ عامًا، واحتلالها الأراضى الفلسطينية الذى دام ٥٦ عامًا، وحصارها غزة منذ 17عامًا، وسوف تكون لى ملاحظة فى نهاية هذا التحليل بإذن الله على هذا النهج فى معالجة الموضوع،

وقد اهتمت مذكرة الدعوى بالتأصيل لأساسها القانونى، ثم بتقديم الأدلة الموثقة على جريمة الإبادة الجماعية، وأخيرًا تقديم الطلبات العاجلة أو الإجراءات المؤقتة المطلوب من المحكمة اتخاذها على سبيل السرعة إلى أن يتم الفصل فى جوهر الدعوى.

وبالنسبة للأساس القانونى للدعوى استندت المذكرة إلى المادة ٩ من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام ١٩٤٨، والتى تنص على أنه «تُعرض على محكمة العدل الدولية بناء على طلب أى من الأطراف المتنازعة النزاعات التى تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما فى ذلك النزاعات المتصلة بمسئولية دولة ما عن إبادة جماعية أو عن أى من الأفعال الأخرى المذكورة فى المادة الثالثة» (التى تحدد الأفعال التى يُعاقَب عليها بموجب الاتفاقية، وهى الإبادة الجماعية، والتآمر على ارتكابها، والتحريض المباشر والعلنى على ارتكابها، ومحاولة ارتكابها، والاشتراك فيها)،

وقد قدمت المذكرة كل ما من شأنه إثبات ارتكاب إسرائيل هذه الأفعال جميعًا، وعرضت فى الوقت نفسه لوجهة النظر الإسرائيلية التى ترفض علنًا أى تلميح بأنها انتهكت القانون الدولى فى حملتها العسكرية فى غزة، أو أن أعمالها تفى بالتعريف القانونى للإبادة الجماعية، بل إنها لا تكتفى بأن الاتهامات الموجهة لها بلا أساس وإنما تصفها باللاأخلاقية والعداء للسامية، وبالتالى فإن ثمة نزاعًا بين جنوب إفريقيا وإسرائيل على مسألة قانونية واقعية، أو تضاربا فى المصالح بين الطرفين فيما يتعلق بتفسير وتطبيق اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وامتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب الاتفاقية،

وبالنظر لأنه يجوز لأى طرف فى الاتفاقية، وليس فقط للدول التى تتأثر بعدم الالتزام بها أن تحتج بمسئولية دولة أخرى طرف فى الاتفاقية بغية التحقق من عدم الالتزام المُدَّعى به ووضع حدٍ له فإن جنوب إفريقيا تعرض نزاعها مع إسرائيل فى هذا الصدد على محكمة العدل الدولية بموجب المادة ١/٣٦ من نظامها الأساسى التى تنص على أن اختصاص المحكمة يشمل «جميع القضايا التى تحيلها الأطراف إليها، وجميع المسائل المنصوص عليها بشكل خاص فى ميثاق الأمم المتحدة، أو فى المعاهدات والاتفاقيات النافذة»، علمًا بأن مذكرة الدعوى اهتمت بتأكيد أن كلا من طرفى النزاع -أى جنوب إفريقيا وإسرائيل- لم يتحفظ على المادة ٩ من الاتفاقية التى تجيز عرض المنازعات بشأنها على محكمة العدل الدولية، وهكذا أحكمت المذكرة بيان أساسها القانونى بما لا يدع مجالًا لأى شك.

وبعد أن فرغت مذكرة الدعوى من التأصيل لأساسها القانونى انصرفت إلى بيان تفصيلى للأعمال الإسرائيلية موضع الاتهام سواء أكانت أفعالًا كالقصف الجوى المستمر لـ١١ أسبوعًا حتى زمن إعداد المذكرة لواحد من أكثر الأماكن فى العالم اكتظاظًا بالسكان، مما أجبر ١٫٩مليون من أهل غزة (٨٥٪) على النزوح مع تواصل تعرضهم للهجوم، مما أدى إلى قتل٢١١١٠، وإصابة ٥٥٢٤٣ (وقت إعداد المذكرة)، وتدمير مناطق شاسعة وأحياء بأكملها ومساحات شاسعة من الأراضى الزراعية، واستشهدت فى هذا كله بتصريحات مسئولين رفيعى المستوى فى أكثر من ٢٠ دولة بينها مصر، وتقارير هيئات وخبراء على المستوى الدولى، والأهم تصريحات رسمية وغير رسمية إسرائيلية، وبناء على هذا كله أسست طلباتها العاجلة، وهو ما أعرض له ولقضايا أخرى فى المقالة التالية بإذن الله.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية