تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
محاكمة إسرائيل
تناولت المقالتان السابقتان التأصيل القانونى الذى استندت إليه جنوب إفريقيا فى اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية للفلسطينيين، والحجج التى قدمتها بهذا الصدد، وكذلك الحجج الإسرائيلية المضادة، وتبقى لهذه المقالة محاولة استشراف حكم المحكمة، غير أنى أود قبل ذلك أن أُعلق على المذكرة الممتازة لجنوب إفريقيا بملاحظة وحيدة أحسبها جديرة بالاهتمام، وقد سبقت الإشارة إلى أن المذكرة تحوطت لحجة إسرائيل بأن أعمالها موضع اتهام المذكرة ليست سوى رد فعل لهجوم حماس فى ٧ أكتوبر الماضى، فسجلت منذ البداية إدانتها القاطعة جميع انتهاكات القانون الدولى من جانب جميع الأطراف، بما فى ذلك الاستهداف المباشر للمدنيين الإسرائيليين، وأخذ الرهائن من جانب «حماس» وغيرها من الفصائل الفلسطينية المسلحة، غير أن المذكرة استدركت بأنه لا يمكن لأى هجوم مسلح على إقليم دولة ما حتى لو كان ينطوى على جرائم فظيعة أن يوفر أى مبرر أو دفاع عن انتهاكات اتفاقية منع الإبادة الجماعية، ومن هنا تنبع ملاحظتى الوحيدة على المذكرة، وهى أنها لم تضع العمل الذى قامت به المقاومة الفلسطينية فى ٧ أكتوبر فى سياقه التحررى، أى كجزء من نضال الشعب الفلسطينى لاسترداد حريته.
صحيح أن النضال التحررى لا يبرر ارتكاب جرائم بحق المدنيين، لكن المذكرة فى رأيى كان من الواجب أن تتوقف عند كم الأكاذيب التى رددتها كل المصادر الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية بشأن جرائم مزعومة ارتكبتها المقاومة كذبح الأطفال واغتصاب الإناث دون تقديم أى دليل، لدرجة أن البيت الأبيض اضطر للاعتذار عن ترديد بايدن هذه الأكاذيب، وكان بمقدور المذكرة أن تشكك فى الجرائم المزعومة المنسوبة للمقاومة، وتطالب بتحقيق دولى فيها، لأن أخشى ما أخشاه فى ظل التسييس المحتمل لقرارات المحكمة أن تساوى بين المجرم وضحيته، وهذا ما ينقلنى إلى النقطة التالية الخاصة بالمسار المحتمل للدعوى.
لابد من التذكرة بداية بأن أحكام المحكمة لابد وأن تتأثر بالإضافة للاعتبارات القانونية بالخلفيات السياسية والثقافية لقضاتها، بمعنى أن نظرة القاضية الأوغندية أو القاضى الصومالى اللذين عانى بلداهما من الاستعمار لابد وأن تختلف مثلًا عن نظرة القاضية الأمريكية (الرئيسة الحالية للمحكمة) التى أسست دولتها أصلًا على اجتثاث السكان الأصليين وإحلال مهاجرين أوروبيين محلهم، وعلى سبيل المثال ففى فبراير ٢٠١٩ كانت رئيسة المحكمة صاحبة الصوت الوحيد لصالح بريطانيا فى قضية تهجير سكان أرخبيل تشاجوس لإقامة قاعدة أمريكية التى أثارتها موريشيوس، كذلك فإن نائب رئيس المحكمة الروسى صوت مع القاضية الصينية ضد قرار المحكمة الذى طالب روسيا كتدبير مؤقت بوقف أعمالها العسكرية فى أوكرانيا فى ١٦ مارس ٢٠٢٢، وبالتالى فإن شبهة التسييس قائمة، لكنها تعمل فى الاتجاهين، بمعنى أنه كما أن هناك قضاة يمكن أن يكونوا ذوى خلفية استعمارية فإن هناك آخرين ينتمون لبلدان خاضت حروبًا للتحرر الوطنى، كما أن خمس قضاة المحكمة الحاليين من العرب (مغربى ولبنانى وصومالى)،
وعمومًا فإن التنبؤ الدقيق بتوجهات القضاة فى هذه القضية شبه مستحيل، وإن كان ثمة ما يدعو للأمل فى قرار عادل للمحكمة على ضوء رأيها الاستشارى الذى أفتى فى ٢٠٠٤ بالبطلان القانونى للجدار الإسرائيلى العازل وضرورة هدمه، وهنا يمكن الاستعانة بالخبرة الماضية للمحكمة فى القضايا المماثلة لقضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، وأختار منها القضايا الثلاث التالية.
ففى ٢٠٠٦رفعت البوسنة والهرسك قضية ضد صربيا والجبل الأسود متهمة صربيا بمحاولة إبادة المسلمين البوسنيين، وحكمت فيها المحكمة بأن صربيا لم ترتكب جريمة إبادة جماعية، وإنما فشلت فى منعها، وفى نقل المتهم بارتكابها للمحكمة الجنائية الدولية ليوجوسلاڤيا السابقة، كما انتهكت التزامها بالامتثال للتدابير المؤقتة التى أمرتها بها المحكمة،
وفى يناير ٢٠٢٠ فرضت المحكمة تدابير مؤقتة على ميانمار، وأوجبت عليها ضمان ألا يرتكب جيشها أو أى وحدة مسلحة غير نظامية أى أفعال ضد الروهينجا فى إقليمها، تدخل فى نطاق مادة ٢ من اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وذلك فى القضية التى رفعتها عليها جامبيا فى ١١نوفمبر ٢٠١٩،
وفى ٢٧ فبراير ٢٠٢٢ رفعت أوكرانيا دعوى ضد روسيا متهمة إياها بالتلاعب بمفهوم الإبادة الجماعية لتبرير عدوانها العسكرى، وحكمت المحكمة فى ١٦مارس بأن تُعلق روسيا فورًا عملياتها العسكرية.
وتفيد هذه الحالات الثلاث فى أن تفاصيل الاتهامات الموجهة للدول فى القضايا الثلاث السابقة لا يمكن أن تُقارَن من قريب أو بعيد بجرائم إسرائيل فى عدوانها الحالى على غزة، وهو ما يجزم بأنه من المنظور القانونى البحت فإن المحكمة لابد وأن توافق على التدابير المؤقتة التى طالبت بها جنوب إفريقيا فى دعواها ضد إسرائيل، لأن المعنى الوحيد لرفض المحكمة الموافقة على هذه التدابير هو السقوط القانونى والأخلاقى الكامل لها، ومما قد يساعدها على حسم موافقتها على التدابير المطلوبة أنها مجرد إجراء احترازى لمنع إلحاق المزيد من الضرر بضحايا الأعمال موضع الاتهام، لكنه لا يعنى حكمًا فى جوهر القضية وهو اتهام إسرائيل بارتكاب الجرائم المتعلقة بالإبادة الجماعية بموجب اتفاقية ١٩٤٨، وقد يتأخر هذا الحكم لسنوات، ويكون أكثر عرضة للتسييس، بإيجاد نوع من المساواة مثلًا بين الجانى والضحية إذا لم تُربط أعمال المقاومة بقضية التحرر من الاستعمار.
وفى النهاية سيقول قائل: وما الجدوى من هذا كله؟ فلن تمتثل إسرائيل كعادتها لأمر المحكمة، فإذا أُحيل الأمر لمجلس الأمن لإصدار قرار ملزم فستكون الولايات المتحدة بانتظاره لإجهاضه، غير أن هذا لا يعنى أنه لا جدوى من أحكام القضاء الدولى، فإسرائيل تواجه الآن موقفًا غير مسبوق بالنسبة لها تتصاعد فيه الإدانات الدولية الرسمية وغير الرسمية لها، ناهيك بالانقسامات الداخلية فيها، ومن شأن موافقة المحكمة على التدابير الاحترازية المطلوبة أن تساعد على زيادة الضغوط وبالذات الدولية على إسرائيل، ومن ثم على استكمال العملية التاريخية لتقويض الكيان الإسرائيلى الذى أُصيب بحالة غير مسبوقة من الجنون والعمى.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية