تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
كل سنة وغزة شامخة
تُنشر هذه المقالة ثانى أيام عيد الفطر المبارك أعاده الله علينا جميعًا بكل الخير، وتُنشر كذلك بعد نصف سنة على ملحمة المقاومة الفلسطينية فى غزة، وعندما بدأت هذه الملحمة كان أنصار التحرر الوطنى والعارفون بحركة التاريخ موقنين بأن النصر النهائى سيكون للمقاومة.
وكلمة النهائى تعنى أن المسار التاريخى لحركات التحرر الوطنى يمكن أن يصادف نكسات، لكنها وفقًا لمنطق التاريخ لا تعنى سوى عثرات مؤقتة تعاود الشعوب المقاومة بعدها، وصولًا إلى التحرر الكامل، وتكفى لتأكيد هذا المعنى مراجعة تاريخ مقاومة الاستيطان الاستعمارى الأبيض فى جنوب إفريقيا الذى بدأ منذ القرن١٨، أو تاريخ المقاومة الجزائرية للاستعمار الفرنسى منذ احتلال الجزائر فى ثلاثينيات القرن١٩، ولأن الخلل هائل بمعايير القوة المادية بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل فقد كان أنصار المقاومة العارفون بمنطق التاريخ وحركته رغم إيمانهم بقوة المقاومة وبسالتها لا يستبعدون أن تخسر هذه المعركة باعتبارها حلقة من حلقات النضال، بل حتى لا يستبعدوا أن تأتى الخسارة بعد أسابيع خاصة وقد تجاوز الرد الإسرائيلى كل الحدود القانونية والإنسانية، مع يقينهم التام بأن الهزيمة لن تكون سوى هزيمة تكتيكية تعقبها جولة وجولات جديدة، كما تشهد بذلك صحوة المقاومة فى غزة بعد كل عدوان إسرائيلى عليها منذ أُجبرت قوات الاحتلال على الانسحاب منها في٢٠٠٥، بل تفكيك المستوطنات القريبة خشية أن يطولها الفعل المقاوم،
بل إن المقاومة كانت تعود فى كل جولة جديدة أقوى مما كانت، ولنقارن على سبيل المثال أداءها فى مواجهة عدوان 2009 / 2008 بأدائها الآن، ونذكر جميعًا التعليقات الساخرة على صواريخ المقاومة فى غزة عندما دخلت ساحة المعركة وتشبيهها بلعب الأطفال.
وعندما بدا أن المقاومة صامدة فى وجه العدوان الإسرائيلى المجنون بدت الحيرة على وجوه العاجزين عن فهم دروس التاريخ وخبرته، وأشفق أنصار المقاومة المؤمنون بعدالة قضيتها وبانتصارها النهائى من تفاقم هستيريا القتل والتدمير الإسرائيلية، وكان لسان حال بعضهم: إلى متى الصمود؟ مع أن خسارة معركة لا تعنى خسارة حرب التحرير، لكن المقاومة فاقت كل التوقعات، وتجاوز صمودها الآن نصف السنة رغم الخسارة البشرية الهائلة التى تخطت الـ ١٠٠ ألف بين شهيد ومصاب، والتدمير الهائل الذى أحدثته إسرائيل مع سبق الإصرار والترصد بغزة،
وهو ما يدفع البعض عادة إلى التساؤل بحسن نية أو بغيرها: هل يستحق الأمر كل هذا؟
والرد أن هذه سنة التاريخ، ومن يذكر المليون ونصف المليون من الشهداء الجزائريين فى حرب التحرير سيكتشف أن هذا هو معدل القتل الاستعمارى العادى للشعوب التى لا تترك لها ممارسات الاستعمار المُحِطَّة بكرامتها سبيلًا سوى اللجوء لخيار النضال العسكرى لرفع تكلفة تلك الممارسات على القائمين بها حتى يعيدوا التفكير فى سياساتهم ويعدلوا عنها،
ويتساءل آخرون: ألم تكن هناك وسائل أخرى للنضال؟
والرد ألم يلجأ الفلسطينيون للنضال السلمى لأكثر من٣٠سنة بعد توقيع اتفاق أوسلو بلا أدنى جدوى بسبب الرفض الإسرائيلى المبطن أحيانًا والمعلن أحيانًا أخرى لفكرة التسوية السلمية ذاتها، وهاهى المقاومة تتجاوز حاجز الـ ٦ اشهر وتقترب من أطول حرب عربية-إسرائيلية، وهى حرب النشأة التى لم تكمل الـ ١٠أشهر عمرًا (مايو١٩٤٨-مارس١٩٤٩)، ومازالت بعد هذه الشهور الستة صامدة ومتماسكة وفاعلة تلحق الخسائر بالقوات الإسرائيلية، وتعود إلى الأماكن التى تصورت إسرائيل أنها طوت صفحة المقاومة فيها، ومازالت إسرائيل ترغى وتزبد حول عملية رفح دون أن تجرؤ حتى الآن على بدئها، ومن المؤكد أن العقلاء فيها يدركون أنها لن تكون سوى تكرار لنموذج ستة أشهر مضت، أى قتل وتدمير دون نصر حاسم، مع خسائر بشرية ومادية موجعة، وتفاقم للانقسام داخل إسرائيل، وفقدان متسارع للدعم الدولى شعبيًا ورسميًا، بل إن ثمة احتمالًا فى أن تكون رفح هى القشة التى تقصم ظهر البعير الإسرائيلي، والدليل على استمرار المقاومة وصمودها أنها مازالت حتى الآن صامدة فى ساحة التفاوض متمسكة بمطالبها العادلة، غير متلهفة على أى وقف لإطلاق النار لا تكون له نتيجة سوى حرمانها من أوراقها الأساسية. غير أن الصمود الرائع للمقاومة فى غزة أمر وصمود أهلها أمر آخر،
فهل رأينا أحدًا من أهلها يسب المقاومة أو حتى يلومها؟ مع أننا نعلم أنهم ليسوا حمساويين بالضرورة، وأن نحو نصفهم قد يكونون خصومًا سياسيين لها، وهو ما يعنى أنهم يفرقون بين اختلاف المناهج فى السياسة الداخلية وضرورة توحدها فى مواجهة العدو المشترك، ولعل هذه رسالة لخصوم حماس خارج غزة الذين لا يلاحظون أن هجومهم عليها يفوق مضمونًا ولهجة هجومهم على إسرائيل،
وألم يشاهد الجميع شيوخ غزة وأطفالها ونساءها قبل رجالها وشبابها وهم يتحملون المشاق التى لا يتحملها بشر فى نزوحهم من شمالها إلى وسطها وجنوبها صابرين متمسكين بوطنهم؟
ألم نر جميعًا أطباء غزة وطواقمها الصحية وهم يقومون بواجباتهم فى أقسى ظروف القصف والحصار وغياب المستلزمات الطبية؟
وبالمقابل ألم نر العمليات الجراحية تُجرى للمصابين بدون تخدير بما فى ذلك عمليات الولادة القيصرية؟ ألم نر أبطال الدفاع المدنى محاطين برجال غزة وشبابها وهم يُهْرعون لكل مكان يُقصف محاولين بأيديهم إنقاذ من يمكن إنقاذه؟
ألم نر جميعًا كيف تحمل أهل غزة الإقامة فى خيام لا تقيهم المطر فى ذروة برد الشتاء؟
وليتخيل أى منا أنه يبيت وأطفاله تحت المطر ووسط برك المياه لكى نعلم جميعًا بطولة أهل غزة، وهل نذكر إبداعهم فى البحث عن أى شىء تشتعل فيه النار لطهو طعامهم وصنع أفران بدائية لإعداد خبزهم؟
وهل رأى أحد فى كل ما يُبث من مشاهد فى غزة شجارًا حول توزيع طعام أو مياه؟ وإنما هو مجرد التزاحم أملًا فى الفوز بأى شىء يسد الرمق،
وإذا نحينا هذا كله جانبًا
ألم نشاهد معلمات غزة ومعلميها وهم ينظمون فى هذه الظروف القاسية حلقات تعليمية للأطفال تحاول تعويضهم ما فاتهم، والأطفال يقبلون عليها متحمسين؟ بل ألم يلجأ شباب غزة لتنظيم ما يشبه حفلات السمر للأطفال وسط الخيام لإدخال السرور عليهم؟
وألم يرسم فنانوها على الجدران المحطمة لتخليد بطولات غزة؟
وأخيرًا يجب أن أعترف أننى ذُهلت عندما شاهدت زينة رمضان فى شوارعها وسط الأنقاض، وشعرت بطمأنينة غامرة وأنا أتابع مشاهد صلاة التراويح وسط أنقاض مسجد حطمه القصف ككل شىء فى غزة، فهذا شعب لا يمكن أن يُهزم،
ومن هنا جاء عنوان المقالة: كل سنة وغزة شامخة.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية