تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د. أحمد يوسف أحمد > قراءة فى قرار محكمة العدل الدولية

قراءة فى قرار محكمة العدل الدولية

تابعت فى مقالاتى الأخيرة على هذه الصفحة دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل فى محكمة العدل الدولية بسبب اتهامها بانتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام ١٩٤٨، وعرضت فى هذا السياق لحجج جنوب إفريقيا ثم لدفاع إسرائيل، وانتهيت للجزم بأنه من المنظور القانونى البحت فإن المحكمة لابد أن توافق على التدابير المؤقتة التى طلبتها جنوب إفريقيا، لأن المعنى الوحيد لرفض المحكمة هو السقوط القانونى والأخلاقى الكامل لها، ويوم الجمعة الماضى أصدرت المحكمة قرارها بشأن التدابير المطلوبة، وقد تابعت جلسة النطق بالقرار مباشرة من خلال الترجمة الفورية التى لم تتح لى التعمق فى تحليل القرار، وتصورت بداية أنه باستثناء عدم النص صراحة على مطالبة إسرائيل بوقف عملياتها العسكرية فإن الحكم يُعتبر انتصارًا كاملًا لجنوب إفريقيا ومن ثم للعدالة، غير أن إمعان النظر فى النص المكتوب لقرار المحكمة أثار لدى عددًا من الملاحظات أتمنى أن تجد اهتمامًا من المتخصصين فى القضاء الدولى، وإن كنت سمحت لنفسى بالخوض فى الموضوع نظرًا للتشابك الموضوعى التام بين الأبعاد القانونية للقضية وأبعادها السياسية بما يسمح للمتخصصين فى العلاقات الدولية مثلى أن يدلوا بدلوهم فى هذا الصدد، ومن تفاعل الآراء بين ما هو سياسى وما هو قانونى يمكن أن نصل إلى تقييم أكثر موضوعية يساعد فى ترشيد خطواتنا القادمة فى هذه القضية البالغة الأهمية.

 

وأبدأ بالملاحظة الأولى المتفق عليها بين الجميع والخاصة بدلالة عدم تضمين قرار المحكمة نصًا يلزم إسرائيل كما طلبت جنوب إفريقيا بتعليق عملياتها العسكرية ضد غزة على الفور، وقد رأى البعض أن ما نص عليه قرار المحكمة من طلبات موجهة لإسرائيل يعنى عملًيا وقف إطلاق النار، بما يعنى أن عدم النص صراحة على تعليق العمليات العسكرية الإسرائيلية لا يمثل فارقًا موضوعيًا عن المطالبة الصريحة بوقف إطلاق النار!

وليسمح لى أنصار هذا الرأى بالاختلاف معهم، وأتمنى أن أحظى برأى المتخصصين فى القضاء الدولى فى وجهة نظرى هذه، فبينما طالبت جنوب إفريقيا إسرائيل صراحة بتعليق عملياتها العسكرية أغفلت المحكمة هذا الطالب، ونص قرارها بالمقابل على أن إسرائيل سوف تتخذ كل ما بوسعها من إجراءات لمنع ارتكاب أعمال تقع فى نطاق المادة ٢ من الاتفاقية (وهى كل الأعمال المتعلقة بجريمة الإبادة الجماعية مباشرة أو على نحو غير مباشر)، ويعنى هذا أن المحكمة لا ترى أن هناك بالفعل أفعالًا ينبغى التوقف عنها، ولكنها تتحسب لها بأن تطلب من إسرائيل إجراءات لمنع وقوعها،

ويُلاحظ أن مذكرة الدعوى طالبت إسرائيل صراحة (الطلب٤) وفقًا لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية بالكف عن ارتكاب أى وكل الأعمال التى تقع فى نطاق المادة ٢ من الاتفاقية، ويعنى هذا أن إسرائيل ترتكب بالفعل هذه الأعمال وعليها الكف عنها، أما قرار المحكمة فيطالبها بالعمل على منع وقوعها، بما يعنى أنها لم تقع بعد، وقد يُقال إن المحكمة لو كانت قد استجابت نصًا لطلب جنوب إفريقيا لكان معنى هذا أنها حكمت فى جوهر القضية، وهو ارتكاب إسرائيل فعلًا لجريمة الإبادة الجماعية بشتى الصور المنصوص عليها فى الاتفاقية، وهذا - أى الحكم فى الجوهر- يمثل مسألة أخرى قد يتطلب حسمها سنوات، والحقيقة أن هذا الرأى على وجاهته مردود عليه بأن المحكمة قضت فى قرارها بتاريخ ١٦مارس٢٠٢٢بشأن التدابير المؤقتة التى طالبت بها أوكرانيا فى الدعوى المرفوعة منها ضد روسيا بخصوص عمليتها العسكرية ضدها بضرورة أن تعلق روسيا عملياتها العسكرية فى أوكرانيا على الفور!

وعليه فإن ثمة شبهة ظاهرة لازدواجية المعايير التى طبقتها المحكمة، وهو ما أشرت إليه فى مقالة الأسبوع الماضى بخصوص تأثر الأحكام بالخلفيات السياسية والثقافية لقضاتها، وإن كنت قد أسأت الحكم على القاضية الأوغندية عندما تخيلت أنها قد تكون أكثر تفهمًا للقضية الفلسطينية فإذا بها إسرائيلية أكثر من القاضى الإسرائيلى ذاته الذى وافق على البند٤ من قرار المحكمة الخاص باتخاذ إسرائيل إجراءات فورية لتقديم الخدمات والمساعدات الإنسانية لمواجهة الظروف غير المواتية للفلسطينيين فى غزة، بينما انفردت سيادتها بالاعتراض على هذا البند!

بل إن قرار المحكمة لم يُشر إلى الطلب الخامس لجنوب إفريقيا الخاص بإلزام إسرائيل باتخاذ جميع التدابير ضمن سلطتها بما فى ذلك إلغاء الأوامر ذات الصلة لمنع الطرد والتهجير القسرى للفلسطينيين من منازلهم! مع أن هذا العمل بالذات أمر واقع ومؤلم إذ أجبرت إسرائيل أكثر من ثلاثة أرباع سكان غزة على النزوح والتكدس على نحو مأساوى فى رفح فى ظروف تمثل تهديدًا فعليًا لحياتهم، فكيف يمكننا فهم تجاهل المحكمة لهذه القضية الإنسانية التى تمثل عارًا فى جبين كل من يدعم إسرائيل أو يسكت عن أفعالها؟

لا يعنى ما سبق أن قرار المحكمة غير ذى قيمة، فقد أقرت المحكمة اختصاصها بالقضية، وهذا يعنى أن أفعال إسرائيل ستبقى فى مقبل الأيام تحت نظر المحكمة الدولية، وعلى كل من يستطيع أن يعمل على الدعم القانونى لوجهة نظر جنوب إفريقيا فى أثناء نظر الدعوى، كما أن قرار المحكمة ألزم إسرائيل بمنع ارتكاب كل أعمال الإبادة الجماعية، ومعاقبة من يحرض عليها، وتقديم الخدمات والمساعدات فورًا للفلسطينيين، والحفاظ على الأدلة الخاصة باتهامات جنوب إفريقيا لإسرائيل، فضلًا عن إلزامها بتقديم تقرير للمحكمة خلال شهر عن التزامها بالقرار، ولن تلتزم إسرائيل طبعًا، وستحاول تلفيق التقرير، لكن جرائمها ستبقى تحت نظر المحكمة والعالم، كما أن جولات المعركة مستمرة وأولاها ستكون فى مجلس الأمن، وستمثل إحراجًا فائقًا للولايات المتحدة وحلفائها، سنرى كيف ستحاول تفاديه، فأين الجهد العربى من هذه المعركة؟

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية