تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
جيش إسرائيل من «الضَمَّة» إلى «الفَتْحَة»
أشاعت إسرائيل عن جيشها بعد انتصارها فى عدوان 1967 أنه الجيش الذى لا يُقْهَر (بضم الياء)، ولم يتوقف أحد آنذاك ليتأمل فى أن النصر العسكرى الواسع الذى حققته إسرائيل لم يكن راجعًا لقوة جيشها بقدر ما كان بسبب أوضاع خاطئة لخصومه!
وليس أدل على ذلك من أن قوة مصرية صغيرة يُقدر قوامها بـ30 من رجال الصاعقة تمكنت فى اول يوليو، أى بعد أيام من هزيمة يونيو، من دحر قوة إسرائيلية قوامها كتيبة مشاة ميكانيكية وسرية دبابات عندما تقدمت لاحتلال بور فؤاد التى ظلت الجزء الوحيد من سيناء الذى لم تتمكن إسرائيل من احتلاله، وبعد أسبوعين دك سلاح الجو المصرى المواقع الإسرائيلية فى سيناء، وفى 21 أكتوبر 1967، أى بعد أكثر قليلًا من 4 أشهر على الهزيمة أغرقت زوارق الصواريخ البحرية المدمرة إيلات التى كانت تقوم بتحركات استفزازية بالقرب من شاطئ بور سعيد!
ولم تكن هذه الأعمال سوى مقدمة لحرب استنزاف دامت سنوات، تخللتها عمليات خارقة كعمليات العبور الجزئية لشرق القناة، والهجمات المتكررة الخارقة من الضفادع البشرية على ميناء إيلات، وتوجت حرب الاستنزاف بحرب أكتوبر التى أعادت الأمور إلى نصابها، وصححت معادلة التوازن العسكرى فى المنطقة كما يجب أن تكون، وأفضت إلى الانسحاب الإسرائيلى الكامل من سيناء بالقوة والتفاوض معًا.
وفى يونيو 1982 تخيلت إسرائيل أن معاهدة السلام مع مصر سوف تتيح لها العربدة فى الأراضى العربية فأقدمت على غزو لبنان لاجتثاث المقاومة الفلسطينية منه، وصمدت بيروت أمام قوات الغزو لأكثر من شهرين، ولم تتمكن إسرائيل من احتلالها إلا بعد أن خرج منها المقاتلون الفلسطينيون، وتم توقيع اتفاق لبنانى إسرائيلى فى مايو 1983 أسقطه مجلس النواب لاحقًا بضغوط شعبية، وانسحبت إسرائيل من لبنان مكتفية بالبقاء فى الشريط الحدودى الجنوبى الذى أجبرتها المقاومة اللبنانية على الانسحاب منه أيضًا فى مايو 2000، كذلك أجبرت المقاومة الفلسطينية فى غزة إسرائيل على الانسحاب فى 2005، بل تفكيك المستوطنات القريبة من غزة فى سابقة هى الأولى من نوعها،
وفى يوليو 2006 اعتدت إسرائيل على لبنان مجددًا ردًا على عملية قام بها «حزب الله» لأسر جنود إسرائيليين للمقايضة بهم على الإفراج عن أسرى عرب، ولم تتمكن إسرائيل من كسر إرادة المقاومة، واضطُرت للقبول بوقف إطلاق نار متوازن، بعد أن بشرت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك بأن ما كان يجرى من سفك دماء إنما هو إرهاصات لشرق أوسط جديد خالٍ من سخافات وإرهاب ما يُسمى بالمقاومة، وبعد انسحابها من غزة، واكتشافها أن هذا الانسحاب لم يقض على المقاومة، بل على العكس زاد من وتيرتها تكررت أعمال العدوان واسعة النطاق عليها اعتبارًا من نهاية 2008 مطلع 2009 وانتهاءً بمايو 2023 أى قبل عملية «طوفان الأقصى» بـ5 أشهر، واللافت أن إسرائيل رغم تكرار اعتداءاتها على غزة لم تتمكن من كسر إرادة المقاومة رغم كل أعمال القتل والتدمير التى انطوت عليها تلك الاعتداءات.
ما نراه اليوم إذن ومنذ ما يقرب من 9 أشهر فى غزة من تفوق فى القتل والتدمير وعجز عن تحقيق نصر سياسى ليس جديدًا على جيش إسرائيل من حيث طبيعته، فقد تكرر فى حالات عديدة أوضحها التحليل السابق، لكن الجديد بالتأكيد هو الاختلاف فى الدرجة، ففى حرب الاستنزاف المصرية وحرب أكتوبر واجه الجيش الإسرائيلى أقوى دولة عربية معززة بتحالف مع سوريا، ودعم عسكرى من 9 دول عربية بدرجات متفاوتة، وتوظيف من الدول العربية لسلاح البترول فى المعركة، وتنسيق استراتيجى مع اليمن أفضى لحصار إسرائيل من باب المندب، وفى الغزو الإسرائيلى للبنان 1982 واجهت المقاومة الفلسطينية واللبنانية بدعم من القوات السورية الموجودة فى لبنان آنذاك ذلك الغزو، وللمقاومة اللبنانية دون شك عمقها الإستراتيجى فى سوريا الذى يتيح لها تلقى الدعم من إيران، وعلى الرغم من أن المقاومة الفلسطينية فى غزة تلقت بالتأكيد دعمًا من الخارج بأشكال ودرجات متفاوتة إلا أن هذه العملية تتم فى ظل ظروف خانقة، وبالذات منذ فرضت إسرائيل حصارها على القطاع بعد انفراد حماس بالسلطة فى غزة عقب فوزها فى انتخابات 2006، وصدامها المسلح مع فتح فى 2007،
وفى هذه الظروف غير المسبوقة أسست المقاومة بنيتها التحتية، وبالذات شبكة الأنفاق التى مازالت تلعب دورًا مهمًا فى القتال حتى الآن، وكذلك أسست لصناعة عسكرية جنينية تضطلع ثمارها بدور بارز فى القتال الآن، ناهيك بالمؤشرات الأخرى للقدرة الذاتية التى تشير لنخبة من المقاتلين ذوى قدرات قتالية وتنظيمية وعلمية لافتة مكنت المقاومة حتى الآن ليس فقط من القيام بعمليتها الكبرى فى 7 أكتوبر الماضى، وإنما أيضًا من الصمود لمدة دخلت الآن شهرها التاسع، وإيقاع الخسائر الموجعة للعدو، والعودة للقتال فى المناطق التى تخيلت إسرائيل أنها اجتثت المقاومة فيها، بل التصعيد الواضح لأعمالها، كما يبدو من الأرقام المتزايدة لخسائر الجيش الإسرائيلى، فى وقت تشير فيه تقارير لتراجع الروح المعنوية لأفراده،
واللافت أن منظومة القيادة والسيطرة فى المقاومة واضحة التماسك عسكريًا ودبلوماسيًا وإعلاميًا، كما ينعكس فى العمليات النوعية التى تقوم بها فى الآونة الأخيرة، وسلوكها التفاوضى الصلب، والرسائل الإعلامية التى لا تبثها عن عملياتها فحسب، وإنما عن أحوال الأسرى والرهائن الإسرائيليين لديها، فى سياق حرب نفسية تخوضها ضد إسرائيل تشير التقارير إلى فاعلية مردودها فى أوساط الرأى العام الإسرائيلى، ويُضاف لهذا المكاسب المعنوية للمقاومة نتيجة شهادات بعض الأسرى المُفْرَج عنهم عن حسن معاملتهم فى الأسر،
وفى مقابل تماسك المقاومة يشاهد الجميع الآن مؤشرات مذهلة على انقسام سياسى داخل إسرائيل يشمل كل المستويات، وإن كان علينا أن نتذكر دائمًا أنه انقسام حول إدارة الصراع لا يمس التوافق المجتمعى حول أهداف الحرب، والموقف من حل القضية الفلسطينية بصفة عامة، ومع ذلك لنأمل أن تُفسح استدامة الخيبة العسكرية الطريق لتفكير أكثر تعقلًا، ولم أُشر فى كل ما سبق الى أن هذه الخيبة حدثت رغم الدعم الأمريكى غير المسبوق عسكريًا ودبلوماسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا.
تشير الخبرة القتالية للجيش الإسرائيلى إذن منذ عدوان 1967 إلى تراجع واضح فى قدرته على تحقيق أهدافه العسكرية والسياسية بلغ ذروته فى العدوان الحالى على غزة، رغم تفوق لافت فى القدرة على التدمير والقتل،
وآن الأوان لكى تحل (الفتحة) محل (الضَمَّة) فى الفعل (يقهر) فيتحول وصفه من (الجيش الذى لا يُقهر) إلى (الجيش الذى لا يَقهر)، وإن كان يبقى متفردًا فى القتل والتدمير.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية