تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د.أحمد زكريا الشلق > بنت الشاطئ: سيرة فذة وحب عميق (2 ــ3)

بنت الشاطئ: سيرة فذة وحب عميق (2 ــ3)

وعندما وجدت زميلاتها بدأن الدراسة المنتظمة بالمدرسة الابتدائية للبنات، طلبت من والدها أن تذهب إليها فرد عليها بشكل حاسم بأن بنات المشايخ العلماء ليس لهن أن يخرجن إلى المدارس المفسدة وإنما يتعلمن فى بيوتهن. وأمرها أن تتلو من سورة الأحزاب آيات: «يانساء النبى لستن كأحد من النساء».. إلخ الآيات .. فخطر لها أن تسأل والدها: هل أكون من بيت النبوة؟ وهل بلغت مبلغ النساء؟، لكنها تهيبت السؤال!.

نتج عن هذا أن زهدت الصبية فى الدنيا وانتابها الذبول والشرود والانطواء، ففزعت أمها إلى جدها الشيخ الدمهوجى تلتمس النصيحة، فما زال الجد بوالدها حتى وافق على التحاقها بالمدرسة مشترطا أن تتابع دراستها الدينية فى البيت وأن تنقطع نهائيا عن المدرسة بمجرد أن تشارف على سن البلوغ.

أتمت عائشة الدراسة الابتدائية وقد جاوزت العاشرة التى حددها والدها لتحجز فى البيت مع الحريم، لكن زميلاتها بدأن مواصلة التعليم فى المدرسة الراقية التى تشغل الطابق العلوى من المدرسة، وكانت تختار تلميذاتها من المتفوقات، وكانت صاحبتنا أولى الناجحات، واعترض الوالد وجاء دور جدها ثانية مستعينا بشيوخ المعهد على عناد الأب حتى استجاب، وتخلى عنها لجدها، لتقوم على خدمته وتعيش إلى جواره.

بعد اتمام المدرسة الراقية سدت السبل فى وجهها لأنها بلغت ثلاثة عشر عاما وهى سن الحجاب التى تفرض حجزها فى البيت، لكنها بدأت تتطلع إلى استكمال دراستها بمدرسة المعلمات بالمنصورة، وكان نظام التقدم لها يسمح لمن أتمت التعليم بالمدرسة الراقية أن تؤدى امتحان القبول للسنة الثانية مباشرة، فكانت أولى الناجحات، بعد أن ذهبت أمها معها إلى المنصورة فى أثناء غياب والدها عن دمياط، وعندما عاد وعلم بما حدث سحب أوراقها من المدرسة بوصفه ولى الأمر. ولم تهدأ عائشة حتى قدمت أوراقها لمعلمات طنطا، ومرت بمأساة سقوطها فى الكشف الطبى لضعف البصر، مما اضطرها لعمل نظارة طبية حتى استقرت فى القسم الداخلى بمعلمات طنطا. وبعد أن اجتازت امتحان النقل للسنة الثالثة عادت إلى دمياط وعاد أبوها يصرّ على حجزها بالمنزل. وكان المنفذ الوحيد أمامها استعارة الكتب المدرسية المقررة على طالبات السنة النهائية بمدارس المعلمات والعكوف على تحصيلها حتى استطاعت فى غياب والدها عن المدينة أن تؤدى امتحان شهادة الكفاءة للمعلمات أمام لجنة مدرسة طنطا بعد أن تقدمت إليه (من المنزل) وكانت أولى الناجحات. وعندما سألتها لجنة الامتحان عن وجهتها فى التعليم بعد نيل شهادة كفاءة المعلمات قالت إنها ستتخرج بعدها معلمة فى المدارس الابتدائية أو الأولية الراقية ، فأنكر أعضاء اللجنة ذلك وزينوا لها أن تعدل عن هذا الطريق إلى طريق الجامعة ففيه وحده المجال الرحب الذى يستحق أن أتعلق به وأسعى إليه. ولم أكن حتى ذلك اليوم أعرف عن الجامعة إلا كلمات مبهمة ترجمها بالزيغ والضلال، ولا تصورت أن هناك علوما أخرى غير تلك التى أتلقاها على مناهج الأزهر.. وفهمت أن الطريق إلى الجامعة يحتاج إلى زاد من اللغتين الانجليزية والفرنسية.

مضى على عملها بالمنصورة عام وبعض عام ملأت كل دقيقة منها بالتدريس نهارا والتحصيل ليلا وكانت كلما أجهدها العمل المزدوج روّحت عن نفسها بمطالعة كتب من نوع جديد، وذكرت أنها تدين لمكتبة السروى بما فتحته أمامها من آفاق بأيسر جهد وكلفة، فقرأت فيها كتب المنفلوطى وجورجى زيدان وجمهورية أفلاطون وأيام طه حسين والإلياذة ترجمة البستانى وألف ليلة وليلة وغيرها من الكتب الممنوعة فى بيتهم.

وتقدمت إلى امتحان الشهادة الابتدائية المباح لطلبة المنازل ، فنقلت عملها إلى إحدى المدارس الأولية بحى السيدة زينب لتستعد للامتحان، وحتى تتعلم الانجليزية التى ستمتحن فيها، واكتشفت أن الطريق الذى سارت فيه وأشرفت على نهايته يسير فى اتجاه مواز لايلتقى أبدا مع الطريق الموصل للجامعة.

وعندما ادركت أن المناهج التى درست عليها، سواء فى بيتها على يد أبيها وزملائه المشايخ، وماحصلته باجتهادها من مواد الدراسة لكفاءة المعلمات والقسم الإضافى ، كانت قد فصلتها تماما عن الثقافة العصرية المتاحة لتلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية، فكادت تتراجع، لكنها دخلت امتحان الدور الأول فى الشهادة الابتدائية ونجحت، وبعد عام تقدمت - من المنزل - إلى امتحان الشهادة الثانوية عام 1932 بعد أن أفرغت جهدها فى تحصيل المقررات ونجحت.وبعد أن عرف رجال التعليم بالوزارة المشقة التى كابدتها فى طريق تعليمها، نقلوها من وظيفة معلمة بالمدارس الأولية إلى وظيفة كاتبة بكلية البنات بالجيزة، مع توصية لناظرة المدرسة بتدريبها على اللغتين الانجليزية والفرنسية، وبإتاحة الفرصة لها لدخول المعمل .

فى هذه المرحلة كانت تطالع أعدادا من مجلة النهضة النسائية ولما أرسلت إليها إحدى قصائدها نشرتها على الفور مما شجعها على متابعة إرسال قصائدها ومقالاتها والمجلة تفسح صدرها لها ، إلى أن دعتها صاحبة المجلة، وجعلتها تقوم بالمراجعة اللغوية لموادها، ثم عهدت إليها بمهام رئيس التحرير منذ أكتوبر 1933، كما كانت تكتب المقال الافتتاحى وتوقعه باسم صاحبة المجلة، وفرحت الفتاة بهذه التجربة التى أشبعت هوايتها للكتابة ودربتها عليها، كما أغراها ذلك على إرسال بعض قصصها إلى الصحف، وحتى لايعلم والدها بالأمر فيغضب ويصدر قرارا يحرم عليها مكاتبة الصحف، اختارت أن توقع كتاباتها بالاسم المستعار الذى يعبر عن انتمائها للشاطئ وهو بنت الشاطئ.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية