تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
المجتمع فائق السرعة ... الجوع إلى الوقت والسعادة
عرضنا في المقال السابق لأطروحة الحداثة المتسارعة، وأوضحنا كيف أدت ظروف معينة إلى تسارع الحياة، وتحولها إلى حياة يعاني فيها الأفراد الجري الذي لا ينقطع والتي يتحول فيها كل ما هو عمومي وصلب إلى قطع صغيرة سائلة تجري في مياه الحياة المتدفقة.
وقد نحتاج في مقال اليوم إلى أن نفصل هذا الأمر قدر ما نستطيع، فنتعرف على طبيعة المجتمع المعاصر الذي يصفه البعض بأنه مجتمع فائق السرعة. وعندما نولي عقولنا شطر هذه القضية، فإننا نجد أن نقطة البداية تنطلق من علاقتنا بالوقت، يتسم الوقت بأنه يجري في زمن محدد، ولذلك فإنه يقاس بالثواني والدقائق والساعات. وإذا اعتبرنا الوقت بالنسبة للإنسان المعاصر ثروة، فإنها تكون ثروة ثابتة لا يمكن مدها أو تكثيرها، فقط يمكن استثمارها على نحو أفضل. وتحدث أحداث الحياة في زمن محدد، فلكل حدث زمنه الخاص، ولكن أحداث الحياة تختلف عن الوقت في أنها تتكاثر باستمرار، وتتوالد على نحو مخيف من سيولة الأحداث، أو من تسارعها، أو حتى من لزوجتها وتلكؤها.
وعندما نقابل سرعة الأحداث الحياتية وتكاثرها بسرعة الوقت، نجد أن الوقت يفقد قدرته على استيعاب الأحداث، يظل الوقت كما هو ولكن الأحداث تتكاثر وتتسارع. حقيقة أن السرعة قد توفر الوقت وتقلص المسافات، ولكن مع التكاثر الهائل للأحداث يظل الوقت قاصراً، ويظل الإنسان يحارب عبر يومه لكي يعبر مسافات عديدة، ويناضل من أجل أن يوفر الوقت، الذي غالباً ما يكون نادراً وشحيحاً. وتتخلق عبر هذا التناقض حالة يمكن أن توصف بأنها الجوع إلى الوقت، وهي حالة تجعل الإنسان يغير من عاداته ومن علاقته بجسده (فهو مثلاً يضطر في كثير من الأحيان إلى أن يؤدي بعض الأعمال وقوفاً، وقد كان يؤديها جلوساً، أو يمارس بعض الأنشطة الصغيرة في فجوات الوقت بين الأنشطة الكبيرة، أو أن يعمل فى أثناء وجوده في المواصلات العامة..إلخ).
وتطرح عملية التسارع في العمران البشري المعاصر قضية العمومية في التسارع: هل يشمل التسارع كل مجالات الحياة، أم أنه يظهر في مجالات أكبر من ظهوره في مجالات أخرى؛ والسؤال الأهم: هل يستغرق كل طبقات المجتمع وفئاته العاملة، أم أنه يتفاوت بتفاوت الانتماء إلى الطبقة أو المهنة؟ لا أحد ينكر عمومية التسارع، ولكن مدى السرعة يختلف ويتباين عبر المكان والزمان، وعبر القطاعات المختلفة، والفئات المختلفة. ويمكن الافتراض بأن أكبر معدلات التسارع في الحياة تظهر في الجوانب المادية المرتبطة بعالم السلع وعالم التكنولوجيا وأساليب الحياة المستحدثة، وقد يأتي بعد ذلك عالم العمل وما يرتبط به من أنشطة حياتية مثل أداء الواجبات وقضاء الحاجات وتأتي الجوانب الثقافية والمعنوية والعقدية في مرتبة ثالثة. وعلى نفس المنوال فإن الأماكن التي تقترب من عالم المادة والاستهلاك، في عالم الإنتاج والاستهلاك وتداول النقود تكون أسرع في تغيرها من العوالم الأبعد. وينسحب نفس الحكم على الطبقات الاجتماعية. ومن الفرضيات التي يمكن تطويرها هنا أننا كلما اقتربنا من عالم المركز تسارعت الحياة. وتنعكس السرعة في الحياة الاجتماعية بشكل واضح في الجوانب التي تشير إليها الدراسات الواقعية. فمن الناحية المادية يمكن الإشارة إلى التقلبات السريعة في عالم الموضة (في الأزياء وأساليب الحياة). لا ترتبط التغيرات هنا بفصل من فصول السنة، بل تتجزأ الفصول إلى فترات قصيرة تشهد كل منها تغيرات واضحة؛ كما يمكن الإشارة إلى عالم الأحداث التي تتسارع على نحو يترك الإنسان لاهثاً خلفها يركض من أجل أن يتابعها ويلم بأطرافها، وهي مهمة صعبة المنال. ومن الناحية الثقافية المعنوية يمكن الإشارة إلى عالم العلاقات الاجتماعية والاتجاهات، فالاتجاهات متقلبة لا تركن إلى استمرارية، وهكذا العلاقات الاجتماعية التي لا تعرف الاستدامة، وقد تصاب القيم بنفس داء السرعة فتصبح قيماً مستقبلة تتملص من الرسوخ وقوة القهر، لتصبح قيماً سائلة متغيرة أو قيماً لزجة تخلط الحابل بالنابل. ولا يمكن أن نغض الطرف هنا عما يصيب الجسد البشري من طلقات السرعة. فقد يتحول إلى جسد قلق لا يستقر في نومه أو في يقظته، ويطلب منه دائماً أن يؤدي أعماله بسرعة، وأن يستقبل لغة سائلة سريعة التدفق مما يجبره على إعادة النظر في الطريقة التي يتناول بها طعامه أو يعد بها أوراقه أو يكتب بها نصوصه، والانتقال السريع إلى استخدام الرسائل النصية والبريد الاليكتروني عوضاً عن الكلام.
وليس هناك من شك في أن المجتمع فائق السرعة يترك على سكانه آثارا اجتماعية ونفسية يمكن أن نخصص لها مقالاً أخيراً في هذه الثلاثية حول التسارع في الحياة المعاصرة. وحسبنا هنا أن نشير إلى نتيجتين هامتين: الأولى ترتبط بدرجة التباين بين سكان المجتمع في تلقي هموم التسارع وأعبائه؛ فنحن نتوقع هنا أن يؤدي التسارع إلى تكوين فئات اجتماعية تدخل بقوة إلى حلبة التسارع لأن ظروفها الاجتماعية- التمكين المادي أو الثقافي أو كليهما – تساعدها على هذا الولوج. كما أن عالم السرعة يحقق لها أهدافاً أخرى ترتبط بتميزها الاجتماعي. وفي المقابل فقد نجد بعض الفئات التي تخلق لها السرعة مشكلات تكيف اجتماعي وثقافي، وعند هذا الحد يمكن أن نتحدث عن فجوة جديدة هي فجوة الحياة المتسارعة، وقد تصبح الفجوة فجوات عند إمكانية التحدث عن فجوة التكيف الرقمي، أو فجوة التباعد الاستهلاكي..إلخ. وتتعلق النتيجة الثانية بدرجة السعادة التي يحققها التسارع الاجتماعي للإنسان. حقيقة أنه قد يسهل عليه جوانب كثيرة من حياته، ولكنه سوف يسلبه جوانب كثيرة من سعادة حياته، بحيث تصبح السعادة شحيحة تستجدى؛ فإذ يخلق التسارع جوعاً إلى الوقت، فإنه يخلق جوعاً إلى السعادة والاطمئنان، قد نعود مرة أخرى إلى الموضوع.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية