تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د. أحمد زايد > المتحف المصرى الكبير.. تحية إلى الفنان فاروق حسنى

المتحف المصرى الكبير.. تحية إلى الفنان فاروق حسنى

لقد كان إنشاء المتحف المصري الكبير حلما لدى المصريين. فهذا الكم الهائل من القطع الأثرية، وهذا التاريخ الزاخر المتنوع، كل هذا يستحق أن يقابل بوعي كبير بأهمية الحفاظ على هذه الذاكرة الوطنية المصرية بكل ثرائها وتنويعاتها، ويستحق أن تكون أدوات الحفظ وأوعيته على نفس عظمة التاريخ وفيوضه المتعددة. فلا يليق قط أن يحفظ هذا التراث العظيم بطرق تقليدية أو حتى بدائية، وفي أحوزة ضيقة لا تستوعب إلا أعدادا صغيرة من الزائرين.

لقد تشوف الوعي الثقافي المصري أهمية أن يكون لمصر متحفا يليق بتراثها وتاريخها، وتحول هذا التشوف إلى حلم، إلى أن قيض الله لهذا الحلم رجالا عظاما كان على رأسهم هذا الرجل الذي حول الحلم إلى حقيقة، وجاهد في سبيل أن يكون لمصر صرح متحفي كبير يليق بتراثها العظيم، ذلك هو الأستاذ فاروق حسني الذي تولى وزارة الثقافة في فترة طويلة منحته القدرة على العمل والمُكنة على تنفيذ أعمال عظيمة تطرح ثمارها كلما تقدم بنا الزمن.

ولقد كانت فكرة إنشاء متحف مصري للآثار يليق بعظمة التاريخ المصري وتنوعه، ويليق بالدور الثقافي المصري في الإقليم والعالم، كانت هذه الفكرة هي أحد الأفكار العظيمة التي طرحها هذا الرجل وسعى إلى تحقيقها على أرض الواقع بجهد كبير يستحق أن نتذكره الآن وأن نقدم له تحية وشكرا.

حقيقة أن المتحف لم يكتمل في زمنه، بل كاد أن يتوقف في ضوء زحمة الحراك السياسي في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، وفي صخب الحكم الإخواني وذهوله عما ينير العقل أو ينير ذاكرة الوطن. نعم كاد المتحف أن يتوقف لولا إرادة سياسية قوية من قيادة الدولة، وعمل تنفيذي عظيم من رجال مصر المخلصين. لقد كانت المهمة شاقة وعسيرة في ضوء التكاليف المادية، والجهود المطلوبة لكي يتحول هذا المكان الصامت إلى مكان يتدفق بالحيوية والبهجة والجمال.

لقد أصبح المتحف قلعة شامخة يتنافس مع أكبر متاحف العالم وأعرقها، ويقف على مسافة قريبة من الأهرامات، وكأنه هرم جديد يبعث برسالة قوية بأن من شيد الهرم قادر على أن يشيد أهرامات أخرى، وأن الحضارة لا تموت ولكنها تتجدد باستمرار مع تجدد العصور.

ولا يكون هذا التجدد إلا بإرادة الرجال العظام وقوة عزيمتهم، ولقد تجسدت هذه الإرادة في إنهاء هذا الصرح العظيم الذي نراه الآن شامخا أمامنا ويتم افتتاحه من فخامة رئيس الجمهورية في مطلع الشهر القادم. ولقد آثرت أن أخصص هذا المقال للحديث عن الرجل الذي استنبت الفكرة ورعاها في البداية وبذل الجهد لكي يستقيم عودها وأن تبدأ أوراقها في النمو، إنه الأستاذ فاروق حسني. وسوف أحاول أن أقدم قراءة في عقل هذا الرجل العظيم بمنهج ذاتي يقوم على التقمص الوجداني الفكري للشعور بالتقدير والاحترام. لقد بدأت الفكرة تنمو في عقل الرجل منذ بداية التسعينيات، ولعله كان يفكر حينئذ في مقارنة كبيرة بين الأحوال الحضارية والتاريخية لمصر، وبين قدرتها الثقافية على عرض هذه الحضارة وتسويقها وشحذ الهمة نحو تطويرها.

ولعله كان يفكر أيضا في أن الحضارة التي بنت هذه الأهرامات وشيدت هذه المعابد، والتي أضافت عبر تاريخها المتعدد الراقات نماذج معمارية من الكنائس والمساجد والقصور يجب أن يشرق فيها فن العمارة من جديد، وأن تحافظ على مستويات عليا من الألق والجمال في هذا المضمار.

ولعله كان يتلفت حوله فيرى أن العمران الحضري يتدهور ويتردى وكذلك العمران الريفي، وأن المدن المصرية يجب أن تطل على العالم بوجوه جديدة. ولاشك أن السياحة كانت حاضرة في ذهن الوزير وهو يراوح هذه الأفكار، فقد رافقت أفكاره حول المتحف الكبير أفكار أخرى حول تطوير العمران التراثي. فقد رأيناه يمد يد الترميم والاستعادة إلى القلعة، ومجري العيون، ويعيد فتح أبواب البيوت التراثية بعد ترميمها واستعادة رونقها التقليدي، يعيد فتح أبوابها للأنشطة الثقافية (نفكر هنا في بيوت السحيمي والسناري والهواري والست وسيلة، وزينب خاتون، وقصر الأمير طاز)، وتأهيل شارع المعز ليكون مزارا سياحيا.

ولاشك أن كل هذا العمل في إعادة الاعتبار للتراث المادي المعماري، وشغله بأنشطة ثقافية، له دلالة كبيرة في تشجيع السياحة. ولقد كان مشروع المتحف الكبير من أكبر هذه المشروعات وأكثرها ارتباطا بالسياحة.

فهذا المتحف يمكن أن يستقبل أكثر من 5000 زائر يوميا. ولاشك أن هذا النشاط الثقافي في مجال المحافظة على التراث المادي وايجاد تراثات معمارية جديدة قد تواكب مع التوسع في إمكانات الفرص السياحية في مصر، على اتساع رقعتها من الجنوب إلى الشمال ومن الغرب إلى الشرق (نفكر في هذا السياق في التوسعات الكبيرة في الفرص السياحية في مناطق مثل البحر الأحمر وشرم الشيخ).

ولا يمكن أن ننهي هذا الحديث دون أن نربط هذا الفكر بالرؤية العامة لصاحبه. لاشك أن الوزير كانت لديه رؤية للثقافة، أو لنقل مستقبل الثقافة. يتضح ذلك بشكل جلي عندما نربط هذا التفكير المعماري الفني بمنجزات أخرى كان لها تأثير كبير على مجريات العمل الثقافي. من ذلك مثلا تأسيس المركز القومي للترجمة الذي ترجم 1000 كتاب في فترة وجيزة، والانفاق بشكل سخي على المؤتمرات الثقافية الكبرى.

ويمكن أن نستنتج من ذلك أن رؤية الوزير كانت رؤية شاملة تنظر بعين إلى الثقافة المادية وبالأحرى إلى الثقافة اللامادية، وفي كل الأحوال فإن العين لا تغفل عن المردود الثقافي والتراكمات الرمزية لصورة الوطن وحضارته، فضلا عن العوائد المادية التي يمكن أن تجلب من الصناعات الإبداعية التي تحركها المنظومة الثقافية.

وقد نعود في النهاية لكي نؤكد ثلاث حقائق:

الأولى أن هذا الصرح الثقافي والسياحي العملاق يمثل أحد الثمار للرؤية الثقافية الشاملة لوزير فنان يعرف معنى الجمال فيعرف كيف يكون العمل الثقافي المستدام.
والثانية أن الفضل يعود إلى الإرادة القوية للقيادة السياسية التي أدركت أهمية هذا المشروع الثقافي فأعطته كل الإمكانات اللازمة لاستكماله، بل وزادت عليه ما نراه حوله من بهجة للمكان، ومن تكوين علاقات بين المكان وبين ما يجاوره من كنوز أثرية.
والثالثة أن افتتاح المتحف على هذا النحو وفي هذا الزمن يتواكب مع إنجازات عظيمة حضارية وثقافية وسياسية تدخل البهجة والسرور على الشعب المصري، الذي يؤكد كل يوم بصموده وقوته أنه شعب صانع للحضارة وأنه يستحقها عن جدارة.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية