تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

هى والخوف، محاصران داخل سيارة لاتعرف إلى أين تتجه أو تختبئ ، يقودها أب فلسطينى يحدوه الأمل فى إنقاذ أسرته المكونة من خمسة أفراد ، أصغرهم هند بنت السنوات الست، وسط هدير مدافع الدبابات الإسرائيلية التى تغتال الأمل بكراهية لانظير لها فى تاريخ البشر.

كيف يمنح أب خائف ومذعور يرى الموت حوله فى كل مكان ، لأسرته المرعوبة وهى تتداخل بأجسادها النحيلة من أثر الجوع والحصار فى بعضها البعض. لا أعرف على وجه اليقين أو الشك ، مالذى كان يشعر به أبوهند، ولكنه حتما كان فى قمة يأسه وخوفه وحزنه وعجزه عن حماية أسرته، كيف تعذب وهو يسمع نحيب زوجته وأبنائه واستغاثات هند؟!
تسابق السيارة الهاربة من الموت، صوت القنابل والرصاص، وفجأة يصمت كل شيء حولها، ما أقسى صوت الصمت، ماأألمه، هند وحدها غارقة فى دماء أهلها، أمها، إخوتها، عاجزة يدها عن أن تلمس أبيها المنكفئ على مقود السيارة ، تنادى ولاتسمع إلا حفيف صوتها المذعور، فتزداد ذعرا، وخوفا على خوف لايتحمله قلب الصغيرة.
هند بغريزة الحياة تتذكر تعليمات والدها، لو مت اتصلوا على هذا الرقم، الهلال الأحمر الفلسطينى، تتصل بالرقم وبصوت مهزوم، أيقن عبر سنوات قليلة أن لا أحد سيأتى إلا الموت الذى عاشت نصف عمرها لاتعرف غيره: تعالى خدينى..تعالوا خدونى.
ترد السيدة التى ألفت صوت الموت كل دقيقة، بكلمات لتهدئ من روع الطفلة الخائفة، كم هو مؤلم إحساس الخوف إذا سكن قلوبا بريئة، لم تعرف بعد معنى الوحشية، معنى فساد العالم من حولها.
« عمو ياحبيبتى يستعد وهاييجى عشان ياخدك» هكذا قالت السيدة المتحدثة من الهلال الأحمر الفلسطينى.
« عمو» اتصل بقوات الاحتلال القذرة، التى سمحت له بإرسال سيارة الإسعاف لإنقاذ هند التى ظلت لساعات تستغيث حتى صمتت. طال الوقت وعاد الهدوء إلى المكان ، لتصل سيارة إسعاف أخرى لتكتشف أن هند ماتت !.
عرف جنود الاحتلال أن طفلة فلسطينية مازالت حية، وهم جبناء يخشون أطفال الحجارة والتحدى، قتلوها كما قتلوا المسعفين الذين سمحت لهم أن يذهبوا لينقذوها.
ماتت هند ومات قبلها وبعدها عشرات الآلاف من الأطفال والكبار، وضمير العالم متبلد، متجمد، يغمض عيونه ومشاعره من أجل المشروع الصهيونى الذين ترعاه بحماس الولايات المتحدة الأمريكية التى كشفت عن وجهها القبيح بعد أن صدعتنا سنوات بالحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
هند عادت من جديد، ولن تموت وستظل صرخة ألم شاهدة على ظلم العالم ، الذى سكت على فظائع إسرائيل تحت مظلة الأزمات الاقتصادية، وسطوة العم ترامب.
أطلت هند بصوتها البرىء المفزوع بعد أقل من عامين على رحيلها، فى مهرجان البندقية السينمائى فى دورته الـ82 ، من خلال فيلم «صوت هند» الذى شارك فى المسابقة الرسمية التى يرأسها المخرح الأمريكى ألكسندر باين ، الحائز على جائزتى أوسكار، وحضر العرض الأول للفيلم نجوم عالميون منهم: براد بيت، خواكين فينيكس، رونى مارا وألفونسوا كوارون.

الفيلم للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، التى ضمنت فيلمها، الدرامى الوثائقى مقاطع صوتية لهند فحولوها واستنجادها الذى استمرّ لوقت طويل مع سيدة الهلال الأحمر الفلسطينى.
الفيلم لم تهتز له قاعة العرض فقط، بل اهتزت له قلوب الحاضرين، وكأنهم يرون هذا الواقع المؤلم الذى يقترب من عامه الثالث ، وكأنه يحدث لأول مرة.

ولأول مرة فى تاريخ هذا المهرجان يستمر التصفيق لمدة تتجاوز العشرين دقيقة ، ويحصد الفيلم الجائزة الثانية فى المهرجان»الأسد الفضى» وينتفض ضمير العالم من خلال كتابات النقاد والهتاف لفلسطين الحرة.
مافعلته هند بموتها، لم يفعله أحياء كثر حولنا، وهكذا هى فلسطين باقية إلى الأبد بصوت طفلة صغيرة لحقت بآلاف قبلها ماتوا وعاشت فلسطين.

والمفرح أن الفيلم تم ترشيحه للأوسكار كممثل رسمى لتونس فى فئة أفضل فيلم دولى لعام 2026. شكرا لتونس التى قدمت دعما مؤثرا للقضية الفلسطينية من خلال الفن ، فإذا غاب السلاح يبقى الفن ذاكرة لاتمحى من التاريخ.
وطالما الحديث عن فلسطين، فقد حضرت يوم السبت الماضى بدعوة من الصديق الأستاذأحمد المسلمانى رئيس الهيئة الوطنية للإعلام ، لقاء مع السيد وزير الخارجية والهجرة والمصريين بالخارج، فى صالون ماسبيرو الثقافى، الذى أكد فيه موقف مصر متمثلا فى رئيسها عبد الفتاح السيسى، أنه لاتهجير للفلسطينيين من غزة تحت أى ظرف أو ضغط ، وأن هناك موقفا عربيا موحدا، وأن المبادرة العربية هى أفضل حل مطروح وجاهز للتنفيذ فى اليوم التالى لوقف الحرب.

الموقف المصرى يستحق الإشادة، لأنه يأتى فى وقت، تتعرض فيه مصر لضغوط عالمية وإقليمية لتغير موقفها، ولكن القيادة المصرية ثابتة على موقفها الداعم لحل الدولتين، مستندة إلى دعم شعبى كبير.

عاشت فلسطين ولو ماتت مليون هند. هند نبتت من هذه الأرض الطيبة وستزهر ملايين الزهرات.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية