تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
صدمة النهضة وصدمة الكبوة
هناك سؤال متكرر فى تاريخنا الحديث، لماذا كانت صدمة بونابرت والحملة الفرنسية باعثاً على عصر نهضة، وتحرر من الأفكار الرجعية القديمة، واستفزازاً لهمة المصريين وعقلهم الجمعى، وإيمانهم بأن العلم هو كلمة سر الحضارة، وأن الخرافات التى كانوا غارقين فيها لا تجدى فى مواجهة مدافع الفرنسيس؟!
ولماذا على العكس كانت صدمة هزيمة 1967 بداية انكفاء على النفس، واعتصام بالتراث والكتب الصفراء، وبداية دروشة وتطرف وتوغل للأصولية؟،
هناك الكثير من المفكرين العرب حاولوا الإجابة عن هذا السؤال العويص والشائك، منهم العقلانى ومنهم السلفى ومنهم من يدعى الاستنارة الدينية وهو سلفى حتى النخاع، لكن فى رأيى الشخصى كانت إجابة المفكر الكبير جورج طرابيشى أفضل الإجابات وأكثرها إقناعاً بالرغم من أنها لم تأخذ شهرة وانتشاراً مثل أطروحات مفكرين آخرين مثل عابد الجابرى مثلاً،
فطرابيشى بعقلانيته الصارمة وأسلوبه الأدبى الجميل، فرق بين مفهومين فى منتهى الأهمية، فهو قد وافق على أن الحملة الفرنسية كانت صدمة، لكنه لم يوافق على أن 1967 كانت صدمة، لكنه شخصها بأنها «تروما» Trauma، وهناك فرق كبير بين الاثنين، هناك فارق كمى، فإذا كانت شحنة التنبيه ضمن طاقة احتمال الجسم المصدوم، وقابلة بالتالى للهضم والتمثل وإعادة التوظيف، تحولت إلى دافع وحافز، وكان لها مفعول المنبه من الانحطاط، والمس الكهربى الموقظ للقلب، ولها مفعول المهماز، لكن إذا كانت شحنة الصدمة فوق طاقة احتمال المتلقى، وغير قابلة للدمج، سيصبح لها مفعول عكسى، فبدلاً من إطلاق آليات الدفاع الواعى والتكيف السوى، تطلق الآليات اللاشعورية للدفاع المرضى بالعزوف عن مواجهة الواقع وإلغاء العقل النقدى، والتعاطى السحرى مع العالم وليس التعاطى الواقعى، سيصبح لها مفعول اللجام،
أما الفارق الكيفى بين الصدمة والتروما، الصدمة مفهوم فيزيائى له وظيفة تغييرية حركية، أما التروما فمفهوم نفسى له وظيفة نكوصية انكفائية، لذلك قال حسن العطار بعد الاحتكاك بالحملة الفرنسية إن بلادنا لابد أن تتغير، ويتجدد بها من العلوم ما ليس فيها»، وأكد نفس المعنى تلميذه الطهطاوى «الحاجة إلى التغيير، كى تستيقظ سائر الأمم الإسلامية من نوم الغفلة، ويبحثوا عن العلوم البرانية، والفنون والصنائع»،
استفاد المثقفون وقتها من الحملة الفرنسية فى التكيف مع الواقع وتكييف الواقع، يؤكد المفكر جورج طرابيشى فى مناقشته وتوضيحه لمعنى التروما بعد هزيمة 1967، التروما أو ما ترجمه طرابيشى بالرضة النفسية تستفز اللاشعور، وتخدر حساسية الوعى، تجعل المجتمع يهرب بدلاً من أن يواجه، يتصرف كالنعامة، أو يدخل القوقعة، أو يتشرنق، يضيق بالذات ويتخيل أن حماية الذات بتدمير الذات، يمرض المجتمع بالعصاب الجماعى،
أفرزت تروما يونيو 1967 أسئلة كانت قد طرحتها صدمة بونابرت، لكن المجتمع قدم إجابات مختلفة، متأخرة، إجابات تنتمى لما قبل النهضة، لكن هذه الإجابات الرجعية المتخلفة كانت مختلفة، لأن هزيمة 1967 نفسها كانت مختلفة،
أولاً كانت هزيمة لا متوقعة، فالرضة أو التروما يكون وقعها قاسياً إذا جاءت على غير انتظار، مسبوقة بشعور عارم من الثقة بالذات، ومغالاة فى تقييم القوة،
لم يكن هناك عربى فى ذهنه احتمال الخسارة، فقد صورنا الخصم وقتها بالدويلة أو الكيان الهزيل،
ثانياً الهزيمة اللامتوقعة كانت غير مغطاة، بل غير قابلة للتغطية، لم يكن لها صمام أمان لتنفيس ضغطها على العزة القومية، والفخار العربى، بررنا هزيمة 1948 بإلقاء التبعة على الطبقات الحاكمة، لكن هزيمة 1967 كانت هزيمة للمجتمع قبل أن تكون لجيش ناصر وعبدالحكيم عامر، كانت هزيمة مجتمعية لا هزيمة عسكرية، وزاد من ثقل الهزيمة المقارنة الكمية بين العرب وبين إسرائيل،
ثالثاً تلك الهزيمة كانت بالإضافة لأنها غير متوقعة وغير مغطاة، كانت متجددة غير قابلة للتصريف على حسب تعبير طرابيشى، صارت هزيمة يونيو وقتها خبرة يومية مستعصية على التخثر فى شكل ذكرى، الجرح ظل ينزف ولم يتحول إلى ندبة، ومما ساعد على عدم تحولها إلى ندبة ذكرى، أن إسرائيل ظلت تعربد فى بيروت وتقصف منظمة التحرير فى تونس وتعربد فى سماء العراق وسوريا..إلخ، وأنت إذا سددت مسالك تصريف المياه الغاضبة، ارتدت المياه إلى المجرى وحفرت أخاديد وعمقت حفرة الجراح،
رابعاً كان رد فعل الهزيمة على مستوى اللاشعور شبيهاً برد فعل الاغتصاب النفسى، وبالطبع كانت شعورياً ونفسياً هزيمة الأب، كانت هناك حالة يتم مفجعة بهزيمة وبعدها موت عبدالناصر، فلجأ الناس إلى أب آخر وهو التراث، ونسبنا الهزيمة إلى أننا تجاهلنا هذا التراث، وبعدنا عن الدين، وانغمسنا فى عصر نهضة مزور، لدرجة أن صلى أحد الدعاة شكراً على هزيمة 1967، لأنه اعتبرها هزيمة للمشروع الغربى المادى الشيوعى!،
وهنا ظهر الحنين للخلافة العثمانية، وصار النكوص بمثابة إضراب عن النمو، وقطيعة مع حضارة التصنيع، صار أيضاً استقالة من الفعل التاريخى، واحياء لثقافة القبيلة، بعد هزيمة 1967 استغثنا بالقبور وساكنيها ليبعثوا لنا أطواق النجاة، وصارت السماء ملاذاً، وتناسينا أن الأرض من الممكن أن تصنع عليها جنتك بالعلم والعمل.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية