تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

فى ذكرى الزعيم

جمال عبدالناصر هو أحد أهم صناع العالم العربى الحديث. ظهر ناصر على مسرح المنطقة عندما كان يلف المنطقة سديم سياسى واجتماعى هائل ليس له شكل واضح، فمنحه ناصر ملامح عاشت معنا زمنا طويلا بعد ذلك. منح عبدالناصر للسديم العربى شكلا مبهرا، وأضواء وموسيقى وصخبا يخطف الأبصار. جاء يونيو، فانطفأت أضواء المسرح، وتوقف عرض الألعاب النارية، لكن مازال هناك الكثير جدا مما يمكن تعلمه من خبرة هذه السنوات الثرية بالدروس.

كانت مصر تكافح من أجل الاستقلال والتحرر من الاستعمار، وتضامنت بإخلاص مع حركات تحرر وطنى مرت بظروف مشابهة. دعمت مصر حركات التحرر فى المغرب العربى ضد الاستعمار الفرنسى، فتحولت فرنسا إلى أهم مصدر للسلاح الوارد إلى إسرائيل، وصولا إلى بناء المفاعل النووى الذى تطور بعد ذلك إلى رءوس نووية. انتهت موجة التحرر الوطنى فى المشرق والمغرب، وبقيت إسرائيل النووية تهدد المنطقة. ربما احتاج الأمر إلى ترتيب مختلف للأولويات، وإلى مزيج مختلف من المصالح والمبادئ، استفادة من خبرة كثيرين دعموا حركات التحرر الوطنى، دون التورط فى معارك كسر عظم مع قوى استعمارية حاقدة ومتفوقة.

كان فى أغلب بلاد العرب حكومات ملكية تقليدية، تحكم إما مجتمعات قبلية تماما (الخليج والجزيرة العربية)، أو مجتمعات عرفت قدرا من التحديث الاجتماعى والثقافى (الهلال الخصيب). دول العرب كلها حديثة التكوين، ليس لديها سوى خبرة سياسية محدودة، فى إدارة العلاقة مع النظام الدولى، والعلاقة بين الدولة والمجتمع. وسط هؤلاء تمتعت مصر بميزات كبيرة، فلديها جهاز إدارى متطور، وتاريخ طويل مع التحديث، وهى مصدر إلهام ثقافى وفنى كاسح. كان الجميع يتطلعون إلى الشقيقة الكبرى، صاحبة التجربة الأكثر عمقا فى التحديث، ونظم الحكم المعاصرة، والإصلاح الاجتماعى والثقافى. كان لمصر أن تختار بين إرشاد الدول العربية الوليدة لإحداث إصلاحات تدريجية تناسب ثقافتها التقليدية وتركيبتها الاجتماعية؛ أو أن تسعى لإحداث تغييرات ثورية سريعة فى النظم المحافظة. اختار ناصر الثورة وليس الإصلاح. تعلمت الحكومات العربية القلقة على أمنها مبدأ «التقية». اتسعت فى العالم العربى الهوة بين القول والفعل، وهى أسوأ ما يميز السياسة العربية. هل كان الوضع ليتغير لو أن ناصر اختار التوجيه والإصلاح بدلا من التحريض والثورة؟ ربما أكسب هذا السياسات العربية طابعا أقل صراعية، وأكثر صدقا وثقة بين حكومات وشعوب العرب.

فى عام 1954، فى التفجيرات المعروفة بعملية لافون، نفذت مخابرات إسرائيل عمليات تخريب ضد منشآت أمريكية فى مصر بهدف الإساءة للعلاقات بين مصر وأمريكا. عدم الانتباه لحرص إسرائيل على تشويه علاقات مصر بأمريكا هو أحد ألغاز السياسة الخارجية لنظام الثورة. لعبت أمريكا دورا رئيسيا فى إجبار دول العدوان الثلاثى على الانسحاب. توقع الرئيس إيزنهاور من الرئيس جمال عبدالناصر الرد على التصرف الإيجابى الأمريكى بمثله، لكن الأمور أخذت مسارا آخر. كانت إسرائيل تبنى قواعد تأييدها فى أمريكا، لكنها لم تكن قد تمكنت من رقبة السياسة الأمريكية حتى ذلك الوقت. لم تتأسس منظمة إيباك، التى تقود الترويج لإسرائيل فى أمريكا، إلا فى عام 1954. حرصا على علاقاتها العربية، امتنعت الولايات المتحدة عن توريد السلاح لإسرائيل، خاصة أن إسرائيل، وحتى حرب يونيو، حصلت على ما تحتاجه من السلاح من فرنسا وألمانيا. لم تأت أول صفقة سلاح أمريكية لإسرائيل إلا فى عام 1966. حدث هذا بعد أن تدهورت علاقة مصر بالولايات المتحدة فى عهد الرئيس جونسون. القفزة الكبرى فى علاقة إسرائيل بالولايات المتحدة جاءت بعد حرب يونيو، عندما تمكنت إسرائيل من هزيمة خصوم أمريكا من الثوريين العرب حلفاء الاتحاد السوفيتى، فتحولت إسرائيل من دولة تحظى بتعاطف أمريكى إلى رصيد استراتيجى للولايات المتحدة، وإلى حاملة طائرات أمريكية ثابتة فى الشرق الأوسط. من يومها وكل دول الشرق الأوسط تجاهد لسد فجوة النيران والتكنولوجيا مع إسرائيل. هل كان يمكن لناصر التصرف بطريقة تبقى بعضا من أواصر الصلة بأمريكا، على الأقل لتجنب الانحياز الأمريكى الكامل لإسرائيل؟

كان حظ مصر ليكون أفضل لو أن ناصر كان ثوريا بدرجة أقل، وإصلاحيا بدرجة أكبر. الثورة الاجتماعية والسياسية التى أطلقها ناصر فى مصر والعالم العربى كانت أثقل كثيرا من أن تحتملها الأوضاع الهشة فى مصر والمنطقة. هدمت ثورة ناصر طبقات ونظما محافظة وأحلافا استعمارية، لكنها لم تنجح فى بناء طبقات تقدمية ونظم إصلاحية وتحالفات عربية. ماذا لو طبقت مصر الناصرية سياسة صناعية حازمة دون القضاء على طبقة الرأسماليين الصناعيين (كوريا الجنوبية نموذجا). ماذا لو أن مصر الناصرية تمسكت بعدم الانحياز بدقة فتجنبت عداء أمريكا والغرب (الهند نموذجا). ماذا لو أن مصر قادت العرب للإمساك بالفرص القليلة التى لاحت لتسوية القضية الفلسطينية قبل حرب 1967 (اقتراحات الرئيس بورقيبة نموذجا).

جمال عبدالناصر كاريزما طاغية وقدرات قيادية فذة، يندر أن يأتى التاريخ بمثلها. القيادات مثل ناصر لا تظهر فى كل يوم. أحد الفروق المهمة بين البلاد الناجحة وتلك الأقل نجاحا يتمثل فى الميراث المتخلف عن فترة حكم القادة العظام. هذا هو الفارق بين نهرو وماو والجنرال بارك ولى كوان من ناحية، وتيتو ومجيب الرحمن وخوان بيرون وجمال عبدالناصر من ناحية أخرى.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية