تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

تحدى التطرف اليمينى

الحرب الدائرة فى قطاع غزة، وامتداداتها فى الشرق الأوسط الواسع، ليست رد فعل على هجمات السابع من أكتوبر، كما تدعى حكومة إسرائيل، وإنما هى توظيف أيديولوجى للسابع من أكتوبر من أجل تنفيذ مخططات اليمين المتطرف الإسرائيلي. يسعى اليمين المتطرف لمد حدود إسرائيل لتشمل كل مساحة فلسطين. العقبة الكبرى التى تقف فى وجه هذا المخطط هى العدد الكبير من الفلسطينيين الذين يعيشون بين النهر والبحر، والذين يكاد عددهم يتساوى مع عدد السكان اليهود فى المنطقة ذاتها. يمكن لإسرائيل أن تضم الأراضى الفلسطينية المحتلة عام 1967، غير أن فى هذا إهدارا لحلم الدولة اليهودية، وتأسيسا لدولة ثنائية القومية، يفقد اليهود فيها أغلبيتهم العددية الضئيلة بسرعة. إما دولة يهودية صغيرة تقوم بجانبها دولة فلسطينية، وإما دولة كبيرة واحدة تتسع للشعبين. لا يسلم اليمين الإسرائيلى بأن اختياراته تدور حصرا فى هذه الدائرة المغلقة، إذ يرى أن بإمكانه إقامة إسرائيل كبيرة ويهودية معا، عبر إجبار أكبر عدد من الفلسطينيين على مغادرة أراضيهم، أى عبر نكبة جديدة. هذا هو ما تخطط إسرائيل له فى حرب غزة الراهنة. لقد أصبحت الصورة شديدة الوضوح بعد عامين من الحرب. بدعوى إنهاء تهديد حماس تسعى إسرائيل للتخلص من أهل غزة. إسرائيل ليست معنية بتحرير الرهائن، هى فقط تستخدمهم ذريعة لمواصلة الحرب، بل إن إطالة أمد احتجاز الرهائن يمنح لحكومة اليمين الإسرائيلى الوقت الذى تحتاجه لتنفيذ خطة تهجير أهل غزة، وربما أدى إطلاق سراح الرهائن لتفويت الفرصة على اليمين الإسرائيلى لتهجير الفلسطينيين.

أطماع اليمين الإسرائيلى لا تقف عند فلسطين فى حدود 1948. بعض هؤلاء يحلم بإسرائيل التوراتية – حسب تفسيراتهم للتوراة - التى تضم أجزاء من عدة بلاد عربية أيضا. يستغل المتطرفون الفرص، ويتقدمون تدريجيا نحو هدفهم. يركزون فى هذه المرحلة على فلسطين الانتدابية، وإن كانوا لن يترددوا فى الاستيلاء على أى جزء يسقط من أى بلد عربى آخر، وفى سوريا ولبنان أكثر من عبرة.

من غير المعروف عن رئيس الوزراء نيتانياهو وحزب ليكود أنه من أنصار هذا الاتجاه الشديد التطرف، فهو من أنصار إسرائيل الكاملة، وليس إسرائيل الكبرى. يرفض نيتانياهو قيام دولة فلسطينية، ويسعى إلى التخلص من أكبر عدد من الفلسطينيين بالتهجير القسرى. مع هذا فقد رأينا نيتانياهو يتحدث إلى أحد الإعلاميين عن أن ما يقوم به هو إنجاز لمهمة روحية وتاريخية نحو إسرائيل الكبرى. هذه هى المرة الأولى التى ينطق فيها نيتانياهو هذه العبارة. لقد سحب نيتانياهو هذا التصريح لاحقا، لكن تبقى الدلالة الهامة للعبارة التى نطق بها، والتى تشير إلى أن المناخ السياسى والأيديولوجى فى إسرائيل بات ملوثا بأفكار اليمين المتطرف، لدرجة جعلت من الصعب على نيتانياهو، وهو الحاذق المفوه، التعبير عن نفسه بطريقة تعكس رؤيته.

لقد عقدت مصر اتفاق السلام عام 1979 مع حكومة يقودها حزب ليكود. كان هذا فى زمن لم تكن فيه التيارات المتطرفة تفرض ظلها الثقيل على المجتمع والثقافة والأيديولوجيا فى إسرائيل. وقتها كان حزب ليكود متأثرا بالقيم العلمانية والبراجماتية للأجيال المؤسسة للحركة الصهيونية ودولة إسرائيل. تغير حزب ليكود كما تغيرت الخريطة الأيديولوجية فى إسرائيل، وبات الحزب أكثر تأثرا بعقيدة التطرف اليميني. أظن – افتراضا – أننا لو كنا اليوم نتفاوض على اتفاق السلام مع هذه الحكومة الإسرائيلية، فالأرجح أننا لم نكن لنصل إلى اتفاق يشبه معاهدة السلام المصرية الإٍسرائيلية القائمة، وربما تعذر التوصل إلى أى اتفاق نهائيا؛ ولهذا دلالات مهمة فى مآلات الصراع الجارى اليوم.

كانت فكرة إسرائيل الكبرى موجودة طوال الوقت منذ ميلاد الحركة الصهيونية، لكنها كانت فكرة هامشية محدودة التأثير، فى حين سيطر صهيونيون علمانيون اشتراكيون براجماتيون على قيادة إسرائيل والحركة الصهيونية. تأسست إسرائيل عام 1948 على أراضى الساحل الفلسطينى معدوم الصلة بالتاريخ اليهودى والنص التوراتى. كان هذا مرضيا للجيل الأول من الصهاينة مؤسسى دولة إسرائيل بعقيدتهم القومية العلمانية. وقتها كان حزب ليكود يمثل أقصى اليمين، إذ لم يكن هناك من الأحزاب الإسرائيلية من يقف على يمينه. لقد تغير هذا الآن، وباتت هناك أحزاب أكثر يمينية من ليكود، وباتت هذه الأحزاب تمارس ضغوطا على ليكود لدفعه أكثر جهة اليمين.

بدأ التحول اليمينى فى إسرائيل بعد حرب يونيو، فسقوط كامل فلسطين الانتدابية فى يد إسرائيل، خاصة القدس والضفة الغربية، أو يهودا وسامرا التوراتية، جعل الأمر يبدو كما لو كانت النبؤة التوراتية قابلة للتحقق. لقد تم حقن جرعة دينية كثيفة فى المناخ الفكرى والإيديولوجى فى إسرائيل، وترك ذلك آثاره على سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين والمنطقة. منذ ذلك الوقت واليمين المتطرف يتحرك تدريجيا من الهامش إلى المركز، حتى وصل ممثلوه للمشاركة فى الحكومة الإسرائيلية لأول مرة. أوشك المتطرفون على تحقيق حلم إسرائيل الكاملة بعد أن أوشكوا على استكمال الاستيلاء على الضفة الغربية بشبكة المستوطنات الكثيفة، فشجعهم هذا على التفكير فى المرحلة التالية، مرحلة إسرائيل الكبرى، وهذه انعطافة شديد الخطورة.

الأيديولوجيات ليست عاملا ثانويا فى توجيه الأحداث. ربما لا تكون الأيديولوجيات مهمة فى حياتنا السياسية، لكنها ليست كذلك فى كل مكان آخر. علينا متابعة التحولات الأيديولوجية بعناية، وأخذها بجدية فى تحليلاتنا وقراراتنا السياسية.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية