تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الصين وأمريكا نموذجان
بلغ الجيل الأكبر سنا منا رشده فى زمن الحرب الباردة، عندما دارت المنافسة الحامية بين النموذجين الاشتراكى والرأسمالي، فانقسم المثقفون والنشطاء عندنا بين النموذجين. انهزمت الاشتراكية، وتفككت كتلة الدول الاشتراكية، وانهار الاتحاد السوفيتي. انتشرت الرأسمالية فى أرجاء المعمورة، ولم يعد للصراع بين الاشتراكية والرأسمالية معني. أصبحت كل الدول الكبيرة فى عالم ما بعد الحرب الباردة رأسمالية، لكن بعضها كان ديمقراطيا، والبعض الآخر سلطويا. خلف الصراع بين النموذجين الديمقراطى والسلطوى الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية. مرة أخرى انقسم المثقفون والنشطاء عندنا بين النموذجين.
من أهم التطورات التى حدثت فى السنوات الأخيرة ذلك الصعود الصاروخى للصين، والإعجاب الكبير الذى أصبح النموذج الصينى يحظى به فى أنحاء العالم، بسبب نجاح الصين فى تحقيق نمو اقتصادى سريع، وإخراجها سبعمائة مليون من الصينيين من الفقر. يحدث هذا بينما تتعرض الديمقراطية الأمريكية لضغوط وانتقادات متزايدة. لم يعد الأمريكيون يتفاخرون بنفس القدر من الثقة بالديمقراطية فى أمريكا، ولم تعد الولايات المتحدة مهتمة بالترويج للنموذج الديمقراطى فى العالم. مع هذا فإن المنافسة بين أمريكا والصين مستمرة، فما هو الفارق بينهما، وهل يمثل كل منهما نموذجا مميزا، وما هى الأشياء المعروضة علينا لنختار بينها.
فى الولايات المتحدة نظام سياسى يتيح تغيير الحكام والمسئولين بسرعة كبيرة. الرئيس الأمريكى لا يحكم لأكثر من فترتين، وإن كان المسئولون المنتخبون لمناصب أخرى يمكنهم البقاء فيها بلا سقف زمني. يوجد فى الولايات المتحدة نحو 520 ألف منصب منتخب، بدءا من مجالس التعليم المحلية والبلديات وصولا إلى القضاة والكونجرس والرئاسة. المناصب المنتخبة للحكومة الفيدرالية لا تمثل سوى جزء من عشرة بالمائة من المناصب السياسية المنتخبة فى أمريكا، فى حين تصل نسبة المناصب المنتخبة فى المستوى المحلى إلى 96%، فيما يتم انتخاب باقى المناصب لحكومات الولايات. تبادل المراكز بين الحزبين الديمقراطى والجمهوري، والتغيير السريع فى الوجوه السياسية هو سمة مميزة للنظام السياسى الأمريكى على كل المستويات. لكن تغيير السياسات هو أبطأ شيء ممكن له أن يحدث فى الولايات المتحدة. النظام الرأسمالى الذى يتيح للرأسمال حقوقا واسعة، والتفاوت الاجتماعى المخيف، والضمان الاجتماعى المحدود، هى أشياء تكاد لا تتغير فى الولايات المتحدة رغم تغير وجوه الحكام وأحزابهم. هل نتذكر الصعوبات التى واجهها الرئيس أوباما عندما حاول توسيع تغطية نظام التأمين الصحي، والحرب التى مازالت تشن عليه إلى اليوم؟
الصين يحكمها نفس الحزب منذ عام 1949، ولا تجرى فيها انتخابات بالطريقة المعروفة فى الغرب، ولا يتم تبديل الحكام فى المناصب القيادية إلا بحساب دقيق. لكن السياسات فى الصين تتغير بعمق وسرعة. انتقلت الصين من الشيوعية على الطريقة الستالينية، إلى القفزة الكبرى الشعبوية، ثم إلى الثورة الثقافية، قبل أن تتتحول إلى نظام اقتصاد السوق، الذى قامت فى إطاره بالانتقال بين عدة صيغ للتخطيط والملكية العامة والخاصة والاستثمار الأجنبى والتعليم.
تغيير السياسة وجمود السياسات، أو جمود السياسة وتغيير السياسات. هذان هما النموذجان المطروحان علينا من جانب الولايات المتحدة والصين. فى النموذجين أوجه قصور عدة، لكنهما بالتأكيد أفضل من نماذج سائدة فى بلاد كثيرة يصيب فيها الجمود كلا من السياسة والسياسات معا. يتمتع النموذجان الأمريكى والصين بدرجة عالية من الاستقرار والاستدامة، والقدرة على التكيف مع تغيرات التكنولوجيا والاقتصاد والمجتمع والثقافة. التغيير هو السبيل لتوقى الصدمات. العالم والمجتمع والاقتصاد والتكنولوجيا والثقافة والهويات فى حالة تغير دائم. لا يمكن مواجهة عالم يتغير طوال الوقت بتجميد السياسة والسياسات. الانهيارات السياسية التى نراها من حين لآخر فى بعض البلاد عادة ما تكون نتيجة لجمود السياسة والسياسات والعجز عن التكيف مع التغير. التغيير ـ أيا كان نوعه ـ وليس الجمود، هو السبيل لتحقيق الاستدامة والاستقرار.
فى كل من النموذجين الأمريكى والصينى شيء ثابت لا يتغير، وشيء آخر قابل للتغير. الثابت فى كل نموذج هو الشيء الذى تقف خلفه جماعة المصالح الأقوى فى المجتمع، والقادرة على حماية مصالحها رغم تغير الظروف. السياسات الرأسمالية هى الشيء الثابت فى النموذج الأمريكي، وتقف خلفها مصالح رأسمالية ضخمة، تمارس نفوذا سياسيا هائلا عبر سيطرتها على تمويل الحملات الانتخابية. نخبة السلطة هى الشىء الأكثر ثباتا فى النموذج الصيني، وهى النخبة المنظمة فى الحزب الشيوعى الحاكم، الذى تتم إدارته وفقا لقواعد دقيقة تتسم بالمؤسسية والشفافية والمحاسبة فيما بين النخبة الحاكمة بعيدا عن المشاركة المربكة لعموم الناس.
النموذجان الأمريكى والصينى هما طريقتان فى تنظيم العلاقة بين أقسام النخبة، إما من خلال المنافسة السياسية المحكومة بالقانون والمؤسسات، وإما عبر التنسيق والضبط الدقيق، من خلال القانون والمؤسسات أيضا. القانون والمؤسسات، هى العنصر المشترك بين النموذجين المتنافسين على قيادة العالم.
فى مراحل سابقة كان المتنافسون على قمة النظام الدولى يعرضون علينا نماذجهم فى الإدارة والحكم والاقتصاد، وكأنها جنة الله فى الأرض. هكذا كانت الشيوعية السوفيتية والحلم الأمريكي، والديمقراطية تقدم لنا فى أزمنة خلت. لم يعد أحد الآن يتحدث عن إقامة الجنة على الأرض، ولم يعد لدى أحد ما يكفى من الثقة لإطلاق مثل هذه الوعود الفخمة. نضجت النخب والشعوب وأصبحت أكثر إدراكا لتعقيدات الواقع، وأكثر استعدادا للتضحية بشيء مقابل الفوز بشيء آخر.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية