تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

يحيى الطاهر عبدالله

جاء وذهب فى إبريل. مكث زمنا قصيرا ثم صعد، على حد تعبير رفيقه فى العمر القصير والعبقرية الجنوبية أمل دنقل، الذى حل ضيفا حييا متعجلا للذهاب هو الآخر بعد ميلاد يحيى بعامين،

وحين انتقل يحيى الطاهر إلى الوجود الأعلى والأطهر فى حادث سيارة يوم ٩ أبريل عام ١٩٨١، رثاه أمل من مستشفاه بقصيدة ذكر فى مطلعها أسماء ابنة يحيى الصغيرة التى كان يطوف أبوها القاهرة وبيوت الأصدقاء حاملا إياها على صدره كأنه يباهى بها الوجود الأرضى الضنين.

يقول أمل فى مطلع رثائه ليحيى قبل أن يلحق بصديقه: (ليت أسماء تعرف أن أباها صعد/ لم يمت/ هل يموت الذى كان يحيا/ كأن الحياة أبد/ وكأن الشراب نفد/ وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد؟)
وُلد يحيى الطاهر عبد الله فى قرية الكرنك بمدينة الأقصر محافظة قنا فى ٣٠ أبريل ١٩٣٨. وحمله توتره الإبداعى لمدينة قنا فى عام ١٩٥٩، وهناك التقى رفيقيه أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودى اللذين كانا يكتبان شعرهما المبكر، بينما يحيى لم يبدأ بعد واكتفى فى ذلك الحين بدور الناقد لكتابات صديقيه، بالغرفة التى ضمت ثلاثتهم، واستمر الأمر على هذا الحال حتى عام ١٩٦١ الذى شهد ميلاد يحيى إبداعيا بقصة (جبل الشاى الأخضر) الأكثر تميزا فى مجموعته القصصية الأولى: (ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا).

وفى عام ١٩٦٢ رحل الأبنودى إلى القاهرة، ودنقل إلى الإسكندرية، بينما تريث يحيى عامين بقنا ثم هبط إلى القاهرة فى عام ١٩٦٤ وانتهى هناك من كتابة مجموعته القصصية الأولى، التى نشرتها هيئة الكتاب عام ١٩٧٠، وفى عقد السبعينيات المثمر صدرت للطاهر خمس مجموعات قصصية أخرى كانت علامات فى هذا الفن النادر الذى قليلا ما يجود بموهبة أصيلة فيه، وكان يحيى من أندر هذه المواهب، وتميز خاصة بعنايته الفائقة بصياغة لغة القص، وكأنه صائغ للذهب والجواهر، حتى كان بعض معجبيه من الأجيال الشابة يحفظ قصصه عن ظهر قلب وينشدها بين الأصدقاء كأنها قصائد، وكذلك كان يفعل يحيى نفسه بالطبع.

وقد أسعدنى زمانى بأن شهدت هذه العبقرية عن قرب، وحضرت قصصه وهى تُتلى، سواء منه أو من بعض أصدقائى. ولا شك فى أن معايشته مبكرا فى مرحلة التكون لشاعرين مبدعين كان لها أكبر الأثر على توجهه هذا فى فن كتابة القصة القصيرة الذى يعتبر اللغة غاية فى حد ذاتها لا مجرد وسيلة لنقل الحدث.
والسمة الكبرى الثانية فى عمله- خاصة المجموعات القصصية الأخيرة: (الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة) ١٩٧٧، و(تصاوير من التراب والماء والشمس) ١٩٨١ –اهتمامه وافتتانه بعالم الصعاليك والمهمشين، وهو توجه نابع بالأصالة من مشاهدات وتجارب حياته، لكنه أيضا تأثر فى ذلك بأعمال الكاتب الأمريكى جون شتاينبك، الذى اكتشفه يحيى بالصدفة فى مكتبة أحد أصدقائه فترك أثرا لا يُمحى على وجدانه وعقيدته الفنية.

لكن قبل هذه الذروة التى شهدتها الأعوام الأخيرة من حياة وإبداع يحيى الطاهر عبدالله، كانت له فتوحات فنية منذ مجموعته الأولى، وعبر ما تلاها فى عشر سنوات من التوهج: (الدف والصندوق) ١٩٧٤، (الطوق والأسورة) ١٩٧٥، (أنا وهى وزهور العالم) ١٩٧٧، و(حكايات للأمير حتى ينام) ١٩٧٨. خطف الموت يحيى وهو فى قمة توهجه؛ رحل عنا فى الثالثة والأربعين، لكنه فى عشرين عاما من الإبداع استطاع أن يترك بصمة لا تُنسى فى فن القصة القصيرة، العصى على معظم الكتاب. وها قد مر من الأعوام ما يزيد على الأربعين منذ فارقنا يحيى الطاهر، وللأسف انزلقت ذكراه مع مرور الوقت إلى صمت مريب ومخجل؛ فقليلا ما يتذكره أحد، وهو الذى كان يملأ الدنيا ضجة ومرحا وإبداعا.. فلماذا نحن هكذا: آفتنا النسيان؟

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية