تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

هدنة مع الشعر

أنت تطالع هذه السطور عزيزى القارئ يوم الجمعة ١ ديسمبر، لكنى أكتبها عصر الاثنين ٢٧ نوفمبر، وقد دخلت الهدنة يومها الرابع والأخير، فى ظل أجواء مستبشرة بإمكانية مدها لأيام أخرى، والمغرقون فى التفاؤل يرجحون أنها ستمتد وتمتد حتى تفضى لوقف نهائى لإطلاق النار، ومن يدرى: ربما نصل أخيراً لمفاوضات سلام جدية تؤدى فى النهاية لحل الدولتين واستتباب الأمن والوئام فى المنطقة.

لكن قلبى لم يتعود على الاطمئنان للأحلام الوردية، خاصة حين يتعلق الأمر بمنطقة متأزمة كالتى نعيش فيها. خلاصة القول: رغم أنى عادة لا أكتب فى السياسة، وأميل للأدب والنقد، لم أستطع، إزاء ما يحدث فى غزة، أن أتحدث بهدوء بال، أراه بروداً، عن نص أدبى: رواية مثلا أو ديوان شعر، فى ظل الجحيم المجاور لنا؛ بل المشتعل فى ثيابنا وحلوقنا وقلوبنا.

لكنّ الأمر اختلف بعض الشىء هذا الأسبوع، إذ هدأ استعار النار قليلاً، منذ صباح الجمعة الماضى، أول أيام الهدنة، وصار التنفس ممكناً إلى حد ما. ولذلك فكّرت أن تكون مقالة اليوم هدنة هى الأخرى؛ استراحة نقضيها مع الشعر، تنام فيها النار وتخبو رويداً، فتصير المحرقة مجمرة، نارها هينة إذا قيست بنار الحرب، أى حرب، فما بالكم بأم المجازر الوحشية فى التاريخ المعاصر، التى لا تدانيها فى البشاعة والخسة والجنون إلا حالات نادرة على امتداد التاريخ البشرى كله. قلت: فليكن لقلوبنا نحن أيضاً هدنة نمنحها للشعر.

وكنت بالصدفة قد وصل إلى يدى، فى هذا التوقيت، ديوان لزميلى العزيز وصديقى القريب إلى قلبى الشاعر والكاتب الصحفى بالأهرام عبدالحليم غزالى، بعنوان «ممالك الجمر». قلت: نار الجمر مقدور عليها يا قلبى المحترق المدفون تحت ركام غزة. وأمسكت بالقلم لأكتب، ثم كففت يدى حين تذكرت أن يوم الكتابة يسبق يوم النشر بعدة أيام، وفى ظل نذالة هيستيريا الجنون ولوثة الدمار والدم، هل تضمن يا قلبى المحترق أن يكون الفاتح من ديسمبر هو أيضاً يوم هدنة، وسلام نسبى، وهدوء كهدوء الجمر إذا قيس باستعار سقر؟ فى كل الأحوال، كان يوم كتابة هذه السطور أقل جنوناً ووحشية من سابقيه وربما لاحقيه. ولذلك سوف أتجاسر وأطل معك عزيزى القارئ على ديوان (ممالك الجمر)، وليكن ما يكون.

لكنى أجد نفسى أختار السطور التى تتوافق مع المزاج الحاكم لوجدانى ووجدان الناس هذه الأيام. فاقرأ معى:
«سيارة نقل الموتى/
التى تسابق ظلها فوق سريرى كل ليلة/
ليس لها وجهة أخرى/
غير بقايا مهزوم مثلى».

وفى نفس القصيدة - بعنوان «طواف مثالى للحزن» - يستطرد عبدالحليم غزالى:
«ونواح النسوة/
اللاتى يبكين زيوتهن وطحينهن/
وحساء فرحة أولادهن/
ليس له طواف مثالى/
كالدوران حول روحى العطنة».

وفى قصيدة «بقايا مرور وحشى» نسمع هذا الأنين:
«القدم التى حطت فى قلبى/
فى طريقها لظل آخر/
تركت مدائن من وجع../
القدم التى حطت فى قلبى/ تركت أسراب يمام يتيم/
يفر من صياد أعور/
احتسى النيل/
وتجشأ غبشاً/
وأطلق رصاصهُ فى ضحى الأفق/
مدشناً مملكة النار المروعة».

ومن (مملكة النار) لـ (ممالك الجمر)، القصيدة التى أعطت الديوان عنوانه، ويقول فيها غزالى:
«كُفّى عن تقشير مرآتى/
بسكين خيبتك الهمجية/
فالذى يسكن شرق روحى/
غابات صمت وترصُّد/
وممالك جمر/
معتقة فى كل خلية».

ونختم بقصيدة (فى حضرة خيباتى) التى يقول فى مطلعها:
«أتفقد خيباتى واحدةً واحدةً/
أقبلهن فى خدود مشتعلة زهواً/
أراقصهن عند تخوم الهزائم/
أواعدهن فى سرائر مغزول شوقها/
برشقات من لحمى ودمى..».

ويواصل الشعر تحت النار احتراقه الخاص، مثل ناى فى مقرعة طبول (مملكة النار المروعة) كما سماها عبدالحليم، ليمنحنا بعض الشجن، بأصابع وشفاه عازف موهوب، فى هنيهة من السكينة، لها بالتأكيد ما بعدها.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية