تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
حامل مفتاح المدينة
أسامة علام من الكتاب الذين تحبهم شخصياً عندما تقرأ لهم. وقد قرأت له فكتبت عنه مرة من قبل، عندما صدرت مجموعته القصصية «طريق متسع لشخص وحيد» منذ بضع سنوات، تعاطفت مع تجربته الإنسانية بقدر ما أحببت ما أثمرته هذه التجربة من نصوص أدبية، خاصة أن بعض هذه النصوص كتبه أديبنا الرّحالة فى مدينة نيويورك التى سبق لى أن عشت فيها فعشقتها زمنا ليس بالطويل وليس بالقصير؛ عاما ونصف العام كانت كفيلة بأن أحمل لها حنينا دائما،
رغم مرور أكثر من أربعين عاماً على العودة، وكأننى تركت قلبى هناك. لكن هذه ليست الحكاية التى نحن بصددها الآن.
لقد أثمرت السنوات الأربع أو الخمس التى انصرمت منذ صدور مجموعة (طريق متسع لشخص وحيد)، والتى تضم «حكايات عن 12 مدينة عجيبة» كما يصف الكاتب فى عنوان فرعى، ونرى خلالها أسامة علام وهو يتنقل بين القاهرة وباريس وروما ومونتريال، فنيويورك حيث ألقى عصا الترحال.
ومرت السنوات فتبلورت فى وجدان الكاتب حدوتة عن الوحدة والغربة وشهوة الاكتشاف ومرض التعاطف الإنسانى الذى يعذب صاحبه لكنه لا يرجو منه شفاء، ببساطة لأن البرء منه هو موت القلب.
أربع أو خمس سنوات كانت كافية لأن يمتلك الوحيد المغترب مفتاح المدينة. لقد عرّش القلب ومد جذوره فى أرض تََلََخَّص العالمُ فى تربتها وامتزج؛ مدينة عامرة، بل مزدحمة، بالنماذج الإنسانية العجيبة، التى صارت من فرط شيوعها غير قابلة لإثارة الدهشة!. لكن رادار النفس المرهفة يلتقط، من الشارع ومن خلف باب البيت الموصد بأقفال ثقيلة، حدوتة الإنسان من كل جنس. يختلف لون الجلد وملامح الوجه وإشعاع جوهرة العين، لكن المحبة والفقدان والرقة والقسوة والخوف من أن يموت الإنسان وحيداً، والرغبة فى التميز ولفت الأنظار، والطمع والجشع و الحنان والحياء، وأشياء أخرى كثيرة تظل كما هى، تحدث وتقال بمفردات لغات شتى تتردد عبرها نفس المعانى.
وحين تمتلك راداراً حساساً كهذا، فكأنك تمتلك مفتاحاً ذهبياً تنفتح بقوة سحره كل الأبواب مهما ثقلت أقفالها وتعددت؛ تنفتح بيوت المدينة الكبيرة للوحيد المغترب، وتنطق الجدران بأسرار البيوت، ويُلهََم الطبيب البيطرى الأديبُ حدوتةً غربية فيها من الشرق سحر ألف ليلة.
تدور الأحداث فى نيويورك عند اكتمال الربع الأول من القرن الحادى والعشرين ، لكنّ الشاطر شهاب - اسم بطل الحكاية الدكتور شهاب منير - تناديه نداهات كجنيات فلكلور ريف مصر من خلف أبواب البيوت المغلقة: «افتحنا»، بمفتاح وهبته إياه الحدوتة، قادر على كل فَتْحٍ؛ فبمنطق الحواديت المفحم لكل منطق يستأجر شهاب شقة مفتاحها يفتح كل البيوت! يتسلل إلى البيوت فى غيبة أصحابها، تحت إغواء الوحدة والفضول ، أو دفء القلب وحنانه والرغبة فى المساعدة والكرم الشرقىّ الكامن فى الروح. وكما يحدث فى حكايات ألف ليلة حين يستسلم أبطال الحكايات لإغواء فتح الغرف المحظورة المحرم دخولها، فيقعون فى شر أعمالهم، وإن كان دافعهم الخير،
هكذا يتورط شاطرنا فى حكايات الآخرين، وبمنطق الحدوتة نفسه يجد شهاب نفسه فى قيعان مهلكة تحت طائلة القانون، وبعدها بلحظات يصير من الأبطال الممجدين وتنفتح له أحضان مدينة كبرى كان حتى ساعة قريبة من الصغار التائهين وسط زحامها، وبين ملايينها عدد يتراوح بين الواحد والصفر، مجرد كسر ضمن مكسوريها، ومأسوريها الواقعين فى حبها وفى حب الحياة.
بطلنا الطبيب البيطرى الشرقىّ السندبادىّ، ذو الدفء المصرى والكرم العربىّ، والذى اختصته الحياة برغبة فى الطواف واكتشاف العالم، نراه فى بداية الحدوتة وحيدا، ورغم أنه طبيب محترم يتعالى عليه بعض الناس نظراً لبشرتهم البيضاء وسمرته الشرق أوسطية، حتى اصطفته الحدوتة وأعطته المفتاح العجيب الذى يفتح كل مغلق، فأطاع قلبه واستسلم لنداء الغرف الموصدة المحرمة، ثم اصطاد قلبه داء التعاطف الإنسانىّ وهو فى الشارع يبحث عن مكان يركن فيه سيارته الصغيرة. قادته شهامته إلى حيث تقف سيارة كبيرة فخمة مفتوح بابها الأمامىّ، يتدلى خارجها نصف جسد يتزيا صاحبه بحُلَّة فاخرة، وينادى متأوها طالبا المساعدة. وحين يقترب منه شهاب- بعد أن وجد أخيرا فى المدينة الكبرى مترين شاغرين ليركن سيارته - تصدم أنفه، ويا للعجب، رائحة كريهة تتصاعد من ذلك الجسد الأبيض المنعّم فى أفخر الثياب.
ويدقق شهاب فى صاحب السيارة الفخمة، فيجده ذا بشرة بيضاء شاهقة البياض، وجسد كالدب الروسى، يتصاعد منه عواء إنسانىّ ينم عن عذاب غير محدد الهوية، فيعرض عليه المساعدة، فإذا بهذا الرجل الذى ينطق كل شىء فيه بثراء باذخ، يسأله إن كان لديه بعض المال!... إلا أن اكتمال عدد الكلمات المخصص لهذه المساحة أدركنا، فسكتت شهرزاد... ونستكمل الأسبوع المقبل إن عشنا وشاء صاحب الأمر.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية