تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

نظرية الجورب الفوشيا

رحل عن الدنيا منذ ثلاث سنوات، ترك شهادته فى 60 كتابا وقصة، أحببت أسلوبه الساخر الرشيق، وهو لا يختلف عن مفهومه الإنسانى للانضباط. ارتداه أديبنا الحكاء خلال رئاسته قسم إخراج صفحات الأهرام.

انضباط فى توظيف القيم الجمالية فى تصميم الصفحات إما لخطف عين القارئ أو انسيابها براحة وسلاسة.

عايشت قناع الانضباط قبله مع عدة رؤساء، مغلفًا بالكبرياء والمهارة مع الأستاذ ماهر الدهبى. وعايشته مغلفًا بالأناقة فى العمل والسلوك مع الأستاذ مصطفى سامى، بينما ترك الحسم الإدارى لطيب القلب رئيس القسم الأستاذ فريد مجدى. وبعدهما وجد الأستاذ سامى دياب أن اللين سياسة تليق بتسامحه الفطري.

وعايشت الانضباط مرادفًا لمعنى الصحيفة العصرية من حكايات كل هؤلاء عن المؤسس هشام توفيق بحرى، إلى أن جاء عهد الأستاذ الأديب سامى فريد الذي اذكره بهذه الحادثة ليضحك ولا اكتب لكم عنه.

. قال لنا فى اجتماع التعارف: «سكرتير تحرير جريدة يعنى الانضباط، والانضباط يعنى الالتزام بموعد طبع الجريدة والقارئ لا ينتظر والمنافسون  يزاحمن لا يعطونك فرصة «الجورنال زى الفريك لا يقبل شريك.» حتى عندما ضرب هذا المثل الشعبى لم يبتسم. كان متجهمًا وتختنق السيجارة بين أصابعه. للأمانة، كنت أشعر  بالقلق لأن التشدد دخيل عليه، بدليل موقفه يوم الجورب الفوشيا.

دخلت على الأستاذ سامى مكتبه. أمامه مواد أربع صفحات كانت مسئوليتى تصميمها لليوم التالى، وضع النظارة على عينه. نظر فى ساعة صالة التحرير وسألني: 
ـ «ميعادك الساعة كام؟» 
أجبت: 
ـ «الساعة الواحدة.»
ـ «كام الساعة الآن؟» 
عاودت النظر للساعة: 
ـ «الرابعة!».
ـ «تلات ساعات تأخير». 

أشعر بفداحة الجرم. التمست له العذر فى اتخاذ أى قرار عقابي. لفت نظر. خصم اليوم أو غياب بدون إذن. 
أمام سؤال نظراته أجبت: 
ـ «كان عندى ظرف قهرى».
ـ «ظرف يمنعك من الاعتذار؟» 
ـ «سيسبب مشكلة لو اعتذرت فى نفس اليوم  
ـ «من فضلك لا أريد ألغاز؟»  
قالها بغضب، لكنى شعرت أنه يريد تفسيرًا يغنيه عن توقيع عقوبة، بدليل سؤاله التالي: 
ـ «لو كنت مكانى ماذا تفعل؟» مددت يدى لكومة الصفحات أمامه وبدأت فى إعدادها للنشر. ولمحت مشروع ابتسامة على شفتيه. 
وضع القلم وقال
ـ : «نحتسى الشاى أولًا.» 
نهضت كمن جاءه الإفراج، بينما تأخر هو لحظات يصطحب علبة السجائر ويضع النظارة. ثم توقف فجأة: 
ـ «ما هذا؟ قوس أخضر خلفية بنطالك.. 
ووضع يده على أنفه: 
ـ وشاااح النيل إلى سكرتير تحرير.» 
وواصل: 
ـ ذكرتنى بحادثة قبل ثلاثين سنة.. عندما دخل علينا الأستاذ عيسوى مدرس العربى فى إمبابة الابتدائية، وقد منحته الجاموسة نفس الوشاح بذيلها فوق البدلة والقميص وربطة العنق. 
قلت: 
ـ «لكن هذا إنتاج قطيع كامل فى طوخ!»
سبقنى إلى ركن هادئ بالكافيتريا ومال وجهه بابتسامة عذبة لا أنساها تحت خط شاربه المنضبط بالشعرة: 
ـ «نبتدى منين الحكاية؟» 

وبدأت أبوح: 
ـ كنت عائدا من البلد بسيارتى على طريق بنها. أم كلثوم تشدو فى الراديو: طاوعنى يا عبدى طاوعنى أنا وحدى، مالك حبيبى غيرى قبلى ولا بعدى، وأنا أردد خلفها: أنا اللى أعطيتك من غير ما تتكلم.. 
وفجأة.. سمعت صوت قرقعة.. وإطار السيارة ينفجر والسيارة تهتز وتترنح، واستطعت الوقوف قرب مدينة طوخ.
غيرت الاستبن. كومت جثة الإطار المهروس فى الشنطة، وجدت يدى غطاها الشحم والطين والهباب. شاهدت على الجانب الآخر للطريق مضخة مياه. اتجهت نحوها لأغسل يدي. حتى صار بينى وبينها مسافة لا تزيد عن متر يغطيه ورد نيل وبوص، قفزت فوق قالب طوب، بمجرد لمسه بقدمى ظهر انه ورقة جافة فغاصت ساقى أولًا وبعدها جسمى حتى الوسط فى مصرف مياه راكدة، صعدت وسط هجوم جيوش ناموس وحشرات وفراشات. تلفت حولي. على البعد شاهدت منزلا وحيدًا فى أرض زراعية. طرقت الباب. فتح رجل فى الأربعين. أغناه حالى عن سؤالى، لم تطل دهشته. سبقني. فتح باب الحمام. دخلت وغسلت نصفى الأسفل.
أثناء خروجى متسرعًا قال لي: «تشرب الشاى حتى يجف البنطلون.» شكرته: «والله أنا متأخر عن الشغل.» سألنى: «أين تعمل؟» قلت: «فى جريدة الأهرام.» سألنى بلهفة: «تعرف أسامة فرج؟» قلت: «صاحبى وأستاذى.» قال لي: «أقسم لازم تتغدى وتشرب الشاى.» ونادى زوجته وقال لها: «الأستاذ زميل أسامة زوج الحاجة شادية يا لولو..» 
وقبل أن يكمل زوجها، أحضرت السيشوار  الخاص بها ، وقالت: «ادخل الحمام تانى ونشف البنطلون وانتبه يوجد طين على ذيل القميص.» 
دخلت حتى تصاعدت أبخرة من البنطلون. ارتديته. شكرتهما وأنا  أسرع قبل أن يحتجزونى للغذاء..
وفى النهاية الحمد لله وصلت عندك، ولهذا لم أتمكن من الاعتذار.

قال: «حمدا لله على سلامتك.» ونهض بسرعة : «
ـ الساعة الخامسة موعد تقفيل الصفحات!» 
واتجه لباب الكافيتريا. سارعت للحاق به. لكنه التفت لى وقال:
ـ «أنا سأنزل لاعتماد الصفحات». وعليك أن تسترح الآن، ثم تذهب لتلميع الحذاء ووضع يده على أنفه وهمس: «أدخل الحمام لتوارى سوأة ذيل القميص، وتخلص من الجورب المطين بجورب لونه زاعق. حتى لو نبهك أحد الزملاء عن تلوث البنطلون تكشف قدمك بشموخ فيخطف عينه لون الجورب الفوشيا».

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية