تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
ذكريات رجب البنا .. ملحمة القهوجى والإبداع!
أغرانى أسلوب الأستاذ رجب البنا الهادئ الرصين وحكاياته المليئة بالمفاجآت والدهشة والمعلومات، أن انهى كتاب ذكرياته فى ليلة واحدة.. أضحك ثم أبكى وأتحسر ثم أعود للأمل وأسبح فى عوالم ابطال روائى وحكاء متمكن حتى فوجئت بأن الذكريات انتهت بعد 9 فصول طفت مع كتابه (ذكريات.. أيام حلوة وسنوات ضائعة) فى التاريخ السلوكى للإنسان المصرى خلال 90 سنة، هى عمر الكاتب بدأت عام 1936 حتى اليوم، بدءا من مدينة دمنهور وشادر الخشب والنورج و9 إخوة، وعالم المدرسة وعالم قهوة المسيرى والكتابة ودراسة الآداب وليسانس الأنثروبولوجيا، والوظيفة ومنظمة الشباب والقلب المفتوح وعودته لدراسة الإعلام وشخصية هيكل وصخب الأحداث فى الأهرام ورئاسة دار المعارف!
وسأكتفى اليوم من المذكرات بالفصل الذى كتبه الاستاذ رجب البنا عن «ملحمة الفقر والإبداع» عن حياة صانع المثقفين عبدالمعطى المسيرى، الذى تجسد سيرته انحراف معايير الحراك الاجتماعى فى مصر القائمة على الشهادة لا على الثقافة والابداع والاستاذية، وكتابته عن ملحمة المسيرى تعيد الاعتبار لقهوجى دمنهور المثقف الفطرى الذى لا يحمل اى شهادة ومع ذلك قارع طه حسين وأسس مدرسة ادبية أبهرت يحيى حقى واستوحى منها توفيق الحكيم يوميات نائب فى الارياف!
ولد المسيرى عام 1909، وعمل قهوجيا لضيق الحال، لم يذهب إلى أى مدرسة وظل يعلم نفسه القراءة والكتابة على يد شيخ أزهرى حتى بلغ 22 سنة وبعدها أنشأ مقهى خاصا به بمدينة دمنهور عام 1932، رغم صخب الزبائن والراديو المفتوح على الآخر، وجد نفسه شغوفا بالأدب فقرأ مؤلفات كتاب الغرب فولتير وفيكتور هوجو وجان جاك روسو وقبلهم ملاحم الادب وسير المنفلوطى والمويلحى ويعقوب صنوع!
ثم بدأ المسيرى يكتب تعليقات على ما تنشره الصحف أو ما يدور بينه وبين الزبائن من مناقشات ويرسلها فيجدها منشورة فى أهم صحف القاهرة، ألف اكثر من 600 قصة قصيرة وكتب أدبية منها «الظامئون» و«أقاصيصى من المقهي» قرأ مقالا للدكتور طه حسين فى جريدة الوادى ـ وكان رئيسا لتحريرها ـ هجوما على شباب الأدباء بأنهم لا يقرأون، وشمل الهجوم الشاعر إبراهيم ناجى. وكان نقد طه حسين له قاسيا دفع ناجى لإعلان اعتزال الشعر، فكتب المسيرى رسالة طويلة من دمنهور إلى طه حسين قال له فيها: أنت تقول ياسيدى الأستاذ إن معظم الشباب لا يقرأون، ولكنى أقول لك إنهم يقرأون، ودليلى على ذلك نفسى، فأنا أقرأ كل يوم الصحف والمجلات فى القهوة، وفى البيت أمضى جزءا من الليل معك فى كتبك أو مع العقاد أو أى كاتب أو شاعر، وأنا معجب بك فى الوصف، وبالعقاد فى الشعر، ومحمد حسن الزيات يعمل لأسلوبه عملية تجميل، وهذه حالة من لم ينتظم فى مدرسة فكيف تكون حالة ناجى الذى تعلم؟، ونشر طه حسين رسالة المسيرى على صفحة كاملة فى جريدة الوادى.
وفى الأسبوع التالى كتب فى حديث الأربعاء مقالا على صفحة كاملة قال فيه: كان ظريفا ممتعا هذا الفصل الذى نشرته للكاتب الأديب عبدالمعطى المسيرى بدمنهور، وأشهد بأنى قرأت هذا الفصل مرتين، ووجدت فى قراءته لذة قوية، وأحسست عجابا عظيما بهذا الرجل الذى ثقف نفسه وتعلم القراءة والكتابة فى السوق، وان الدكتور ناجى إن كان شاعرا حقا سيعود إلى الشعر راضيا أو كارها! والمدهش بعد هذا السجال أن عميد الأدب العربى قدم للمسيرى كتاب (فى القهوة والأدب).. كما ترجم له المستشرق الروسى اغناطيوس عددا من قصصه إلى الروسية! لم يفقد المسيرى أحلامه فأصدر جريدة المستقبل من ركن فى القهوة ونشر فيها رجب البنا اولى مقالاته الصحفية وكان من رواده وتلامذته النجار والمحامى والطالب، وعامل البناء والمقاول وطبيب الأسنان وناظر المدرسة وصنع منهم المسيرى اسرة واحدة وتغيب وجوه ويرحلون بحكم ظروف الحياة ويبقى هو خلف البنك يعانى قسوة الحياة ومرارة العيش والإبداع !
ومع شح العائد المادى سيطرت عليه فكرة السفر من جديد للقاهرة فأرسل إلى يوسف السباعى سكرتير المجلس الأعلى للثقافة يصف حالته فشجعه على المجىء، فكانت الصدمة العاتية انهم لم يجدوا فى ملفه شهادة يعين بها إلا أنه عامل باليومية مقابل عشرة جنيهات فى الشهر، كان يعيش مع أسرته فى شقة فوق السطوح فى امبابة ويمشى يوميا للزمالك من وسط ضجيج الشوارع وباعة الخضار وعصير القصب والأرصفة المكسرة ليعمل وسط عالم اصحاب الشهادات بحى الزمالك حيث الحياة نظيفة والطرق لامعة والمكاتب وثيرة ورائحة العطور، ثم كان الظلم الاكبر انه مات فى الستين بعد مرض عضال يوم وفاة جمال عبدالناصر فى 28 سبتمبر 1970، يوم شلل الحياة فى القاهرة والمدن فلم يجد أحدا من تلامذته يمشى فى جنازته او يصحب جثمانه إلى دمنهور إلا الدكتورة نعمات أحمد فؤاد، التى أصرت ان تركب سيارة الموتى مع زوجته واولاده بجوار الصندوق الخشبى الذى يحتضن جثمان المسيرى!
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية