تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
ثورة الدكتور بهى الدين باشا بركات!
١- ما فعلته ثورة 23 يوليو للفلاحين فى قريتنا قبل ٧1 سنة يفوق الأحلام، كان من حسن حظى أننى عشت هذا التحول طفلا وشابا، شاهدت لحظة تحول الأجراء والمعدمين وعمال التراحيل إلى ملاك، أتذكر مشهد ناظر الاصلاح الزراعى ينادى على كل منتفع: ابصم.. اختم.. استلم ارضك، وتملكت كل أسرة فدانين ونصف الفدان من أرض الباشا، وعشت مواسم الفرح بزراعة القطن وحصاده وتوريده واستلام الفلاح ثمنه، فيتعلم الاولاد والبنات ويتزوجون، ويخزنون فى صوامعهم الأرز والقمح والذرة، وتعيش ماشيتهم فى حظائر مستقلة ويغنى الفلاح بحياته الجديدة موال محمد طه من كلمات فؤاد حداد "ياطالعة الفجر موالك يعودني مع الأيادي التي هي بالخير تزودني"، حين اخرجته الثورة من ظلمات النسيان واللمبة الجاز إلى نور الانسانية والسد العالى، بعد الاف السنين، وتحول الدكتور محمد بهى الدين باشا من مالك إلى "عزيز قوم " حتى وفاته يرحمه الله سنة ١٩٧٢، فباع الورثة السرايا والحديقة ولم يتركوا إلا اسم «عزبة بهى الدين بركات» والسيرة الطيبة لأسرته، واللعنة على ذُل النظام الإقطاعى كله!
كانت قريتنا مجرد عشش فى أول القرن العشرين حتى قسمت أبعادية ناظر الخاصة الملكية أحمد عفيفى على أولاده وجاء نصيب ابنته هدية ١٥٠فدانا بناحية سنفا فبنت مع زوجها - بهى الدين بركات - السرايا وسطها على أحدث طراز ساخن وبارد ومولد كهرباء، وسط حديقة بها أفخر أنواع المانجو والبرتقال والنخيل، وتحولت العشش بثورة الباشا الى دور بالطين داخل كل دار "زريبة" للمواشى فى شوارع مستقيمة تؤدى الى مدخل واحد وبوابة يتحكم فيها ناظر العزبة فانوس أفندى وكاتبها الحاج سباعى، وامامها طلمبة المياه الجوفية الوحيدة بحوض يشرب منها الفلاحون وماشيتهم!
كانت الأرض مقسمة لكل اسرة، بحيث تدفع ايجار الذرة والبرسيم مقدما فيتصرف الفلاح ببيع اثاثه او السلف "بالفايظ" أوالرهن لدفع الايجار، ومن لم يدفع يمنع وبهائمه من مغادرة البوابة، اما محصول القطن والقمح والأرز فيتم حصادها بحراسة الخفراء حتى تحمله سيارات الشركة الاجنبية او المستوًًرِدة، ولا يبقى للفلاح الا الفتات ما يضطره لسرقة حاجة بيته مما زرعت يداه!
لم يوجد فى جدول الباشا اليومى او الشهرى او السنوى موعد يلتقى فيه مع الفلاحين، وهم بالقطع لا يعلمون التزاماته الحزبية والوزارية والنيابية ومجلس الشيوخ ورئاسة جهاز المحاسبات ومحاضراته بالجامعة الامريكية، كانت علاقة الفلاح بالباشا والمحتل الانجليزى كاللهو الخفى عنوانها «التحاشى»، كلاهما مستبد وباطش ومفتر، السبب اكده الدكتور محمد بهى الدين بركات نفسه فى مذكراته عام 1960 وأصدرتها قصور الثقافة بمقدمة للدكتورة لطيفة محمد سالم عام 2017، يقول: فى كل دول أوروبا التى زُرتها، انجلترا وفرنسا وايطاليا، وجدتُ المجتمع منسجما مع بعضه من الطبقة العليا اصحاب المال حتى الطبقة الاخيرة من الزراع والصناع والحرفيين، أما فى مصر فالانسجام معدوم وكل طبقة منفصلة وأداة الاتصال بينهما اجنبية، وحتى القاهرة أصابها الانفصال تشبه أعظم المدن الاوروبية بفخامة المبانى وحركتها التجارية، يقابلها التخلف فى الريف وترتعد الفرائص من هول البؤس وبيوت من العشش الحقيرة يسكن فيها الإنسان والحيوان عيشة دنيئة وغذاء الفلاح أحقر مما يقدمه لدابته وماشيته، فالفارق عظيم بين طبقات الأمة العليا التى تتلقى العلم فى الخارج دون ان ينقلوه الى البلاد!
وهكذا.. لم يكن الباشا حامل الدكتوراه فى القانون من باريس يدرك أنه نموذج حى لهذه القطيعة والانفصام!
بالطبع لم تهتم طبقة الملاك النواب باستمالة اصوات الفلاحين الذين لا يملكون ولا يعرفون ترف الاختيار بين متنافسين، بل كانت الهيئة العليا للوفد تفرض مرشح "سعد باش ويذهب الناخب لانتخابه حتى بعد ان مات سعد بعشرين سنة!
وفى المقابل لم يكن فى قريتنا محل تجارى ولا مصلحة ولا ناد ولا سينما، وظلت عزبة الباشا وزير المعارف والتعليم فى ثلاث وزارات بلا مدرسة ابتدائية ولا حتى كُتّاب، الى ان صار العلاج والتعليم إجباريا لأبناء الفلاحين ويعاقب تاركه بالغرامة والحبس فى عهد ثورة يوليو 1952، وتحقق حلم المدرسة أخيرا بفضل مشروع حياة كريمة فى عهد ثورة 30 يونيو!
وبسبب القطيعة بين الطبقة العليا والسفلى لم يعرف أبناء القرية وأنا منهم أن بهى الدين باشا كان أحد الشباب الثائرين في ثورة 1919 التى طالبت بالاستقلال التام وعودة مصر للمصريين، وأن والده فتح الله باشا بركات خال سعد زغلول كان منافسا على قيادة الوفد بعد وفاة سعد، وفاز بها مصطفى النحاس باشا، وأن الدكتور بهى الدين بركات رفض أن يتولى تشكيل الوزارة عام 1942 بأمر دبابات الإنجليز فى حين قبلها النحاس باشا، فكان قبول «الزعيم» للوزارة بالتعيين من الانجليز سقطة للوفد والحركة الوطنية!
وفى الوقت الذى كان الباشا وطبقة الملاك مشغولين بالحكم في القاهرة عن التواصل الانسانى مع الفلاحين كانت زوجته هدية هانم بركات تقود ثورة فى العمل الخيرى وحركة المرأة الجديدة، اعترف بفضلها الرئيس عبدالناصر، وقال عنها الرئيس السادات: كلنا تلاميذ فى مدرسة هدية، وهى حكاية عطاء مثيرة قادمة تستوجب الشكر والاعتذار!.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية