تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
أنا آتيكم بجدنا الأعظم واقفا!
خاف المصريون على الجد الأعظم فلم يلقوه فى أليم كما فعلت أم موسى بل أقاموا لتقديسه المعبد، وحين أدركه الموت فى التسعين من عمره دفنوه فى مقبرته بوادى الملوك، وتحسبا لعصور الفوضى نُقلت مومياؤه إلى خبيئة المومياوات فى الدير البحرى، وظل بها حتى اكتُشفت فى عام 1881م. ثم نقل مومياءه عالم المصريات الفرنسى جاستون ماسبيرو الى المتحف المصرى بعد ثمانى سنوات وأخيرا استقرت فى متحف الحضارة، واستحق جدنا أن يعاد له الاعتبار بأن يتصدر تمثاله مدخل المتحف المصرى الكبير فى الحفل المهيب الذى تقدمه الرئيس عبدالفتاح السيسى ووفود أكثر من 70 دولة وشاهده على الهواء أكثر من مليار ونصف المليار!.
وقصة هذا التمثال تستحق أن يعاد قراءتها مرات ومرات، فقد وجد مدفونا تحت التراب فى ميت رهينة عام 1820 وعندما انتشرت آثار مصر المنهوبة والمهداة فى معظم متاحف الدنيا وانتصبت مسلاتها فى باريس ولندن وروما واسطنبول ونيويورك والفاتيكان خلت منها بلد منشأ هذه الكنوز الذى كان محتلا!. لذلك كان حفاوة المصريين برمسيس الثانى هذه الأيام هو تصحيح لخطأ تاريخى ودفعا لاتهامات باطلة ظلت تلاحق هذا القائد الرمز طيلة حياته ـ أكرر حياته لأن صاحب الفكرلا يموت!. من هذه التهم أنه «فرعون موسى» رغم انها ليست تهمة أن يكون هو من طارد بنى إسرائيل أو غيرهم من لصوص التاريخ، لكن الفارق الزمنى والتشريح العلمى لموميائه يثبت أنه لم يتعرض للغرق بل توفى بسبب كبر سنه وأمراض الشيخوخة، وأما التهمة الثانية فلها أبعاد استعمارية، فحواها أننا أصحاب حضارة اندثرت وبادت، و«رمسيسكم» بنى المعابد والتماثيل والمساخيط لكى تعبد من دون الله، وهى تهمة تعبر عن جاهلية من يطلقها أو ينقلها، فجدنا رمسيس ولغته وتماثيله ومعابده نتاج حضارة عرفت الإله الواحد، وبنيت على العلوم والفنون وعلمت الدنيا القانون وفنون السياسة والحرب التى تدرس حتى اليوم!.
وحياة صاحب التمثال ملحمة، تبدأ حين التقى الملك سيتى الأول 1320 قبل الميلاد، ابنه الثانى رمسيس ليعلمه أصول الحكم فأخرجه طفلا من قصر الحكم المنعم للعمل فى ورشة للعجلات الحربية، وأطلقه يلعب فى الشارع وسط العامة وفى الأسواق، وبعد ما اطمأن على مهارته فى فهم مسائل العبادة والزراعة والتجارة، أسند إليه بعض المهام فى عمر الرابعة عشرة، ثم عينه وليا للعهد فى سن 16 سنة، وفى عمر الثانية والعشرين تولى حكم البلاد، عام 1279 قبل الميلاد فكانت اهم أولوياته تأمين حدود مصر، وقاد عدة حملات عسكرية لتأمين النهر فى الجنوب، فوصلت قواته إلى النوبة والحبشة والصومال وفى الشمال، وأعاد السيطرة المصرية على بلاد الشام وأوقف زحف الحيثيين وانتصر عليهم فى قادش، ثم أبرم معهم اتفاق سلام صاغ بنوده وهو فى أوج انتصاره، واستطاع الملك رمسيس الثانى بناء العديد من المشروعات العمرانية فى ربوع الأرض المصرية وبنى عاصمة جديدة للبلاد وسط الدلتا، وعشرات المدن والمعابد فى الكرنك والأقصر وطيبة، أبيدوس وتانيس، ومنف والنوبة، وتزوج عشر زوجات أشهرهم الملكة نفرتارى، وأنجب أكثر من مائة ولد وبنت، وظل فى الحكم حتى تجاوز التسعين من العمر، وتشهد تماثيل عصر الملك رمسيس الثانى بالضخامة ومثالية الملامح وجمال الألوان وأناقة الملابس وروعة الإكسسوارات المزركشة والغنية بالتفاصيل المميزة.
وبعد أكثر من ثلاثة آلاف سنة على وفاته انتصب واحد من تماثيله الخمسة واقفا وسط ميدانه الشهير فى القاهرة فى مارس عام 1955، وكان أول تمثال يقام له فى مدينة مصرية، واعتبره رجال ثورة 1952عمقا للحكم الوطنى وتصدر تمثاله الميدان، وتنوعت أشكال إظهار عظمته، فى البدء تفجرت نافورة تحت قدميه يتبرك المصريون بالتقاط الصور الفوتوغرافية أمامه، يستقبل ويودع المسافرين، وفى الثمانينيات أحاطوه بـ كوبرى علوى للمشاة، وبعد مد مترو الأنفاق صار نقله من الميدان ضرورة كما حمايته من التلوث والزحام والضوضاء!.
وكانت المعضلة من يضمن سلامة عودة التمثال الذى يزن 82 طنا بنفس الفخامة؟ واقترح بيت خبرة انجليزى تقطيعه ثلاثة أجزاء، فصاح مهندس مصرى يدعى أحمد محمد حسين: أنا أتيكم به واقفا دون تفكيك، فكانت مغامرته ـ يرحمه الله ـ نموذجا للإبداع والدقة واستحسان المصريين الذين التفوا حول أسطورتهم فى رحلته الأبدية التى تمت فجر 25 أغسطس عام 2006، فكان أول قطعة أثرية تنقل إلى المتحف قبل البناء، فأعطى وجوده دفعة قوية لإنجاز المتحف بعد ان كادت تموت، ليصبح المكان خلال 19 سنة اكبر متحف فى العالم يضم آثار حضارة واحدة على مر السنين. والحفاوة الغامرة تمثال رمسيس الثانى الذى يتصدر ضيوف المتحف العظيم تعكس مكانة هذا القائد فى الوجدان المصرى، فهو نموذج المحارب الشجاع، البانى والمربى العظيم الذى أوصى ابنه بمصر أرض الإله المقدسة أن «حافظ عليها كما ورثتها أرضا لا تنقسم وشعبا لا يندثر».
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية