تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الحقيقة «التائهة» فى صحافة الميدان!
عشت ساعة داخل صندوق الدنيا، حيث تختلط أبخرة الصراعات، بأحبار الطباعة الساخنة بشهادات صناع الاحداث، يلطف اجواءه مذاق البن اليمنى وعبق البخور الكينى، وعطور فيينا، جلست داخله على مائدة تجمع المؤلف شريف قنديل مع رئيس وزراء الهند الأسبق تشاندرا شيكر الذى وصف الأمة الهندية كجاموسة مقدسة اذا ضربتها على راسها فلن تعطيك الحليب، ولا يعرف أن المؤلف تلقى نفس الخلاصة من منافسته أنديرا عن والدها نهرو وأبيها الروحى غاندى، «اذا اضطهدت اى اقلية مالت الى العنف وتوقف الإنتاج أصيبت الأمة بالشلل»،!
ومن جاموسة الهند الى عربة بقطار القاهرة منوف حيث جلس المؤلف ملتصقا ببلدياته طبيب الصدر فى طريقهما إلى قريتهما الرملة، وكان جاره يغفو وسقطت رأسه فجأة على كتف شريف وانتبه معتذرا لأنه لم يذق طعم النوم امس، فسأل: خير يا دكتور؟، حضر للمستشفى مولانا الامام الاكبر شيخ الأزهر فى حالة حرجة جدا ووضعناه على جهاز التنفس الصناعى، فأصابت المحرر الشاب نوبة سعال واسئأذن لمقابلة زميل على المحطة، ثم ركب القطار المعاكس، وفى الطريق كتب الخبر: «شيخ الأزهر عبدالرحمن بيصار فى العناية المركزة بين الحياة والموت»، وانفردت جريدة الجمهورية بالخبر يوم 7 مارس 1982، وانقلبت الدنيا فى مصر وانهالت التليفونات على المشيخة، وقبل ان يعود لجمع متعلقاته انتظارا لقرار الفصل أبلغه مدير مكتب رئيس التحرير محسن محمد بحصوله على مكافاة الانفراد بخبر وفاة شيخ الأزهر الذى ضربته الوكالة ظهر اليوم، فعاد مرة أخرى إلى قريته بحلوى السبق الصحفى،
وما كاد يضع حقيبته فى مقر عمله بجدة ويفتح ملف تحقيقات العدد الجديد من «المسلمون» الذي ارسله رئيس التحرير صلاح قبضايا، حتى اقتحم غرفته مجموعة من رجال البدو المدججين بخناجر الجنبيات النجدية، وسأله كبيرهم: مصرى انت ؟ قال نعم؟ ومدير تحرير؟ قال نعم ؟ من وين؟ قال: منوفية، قال: إذن فلاح وتفهم الاصول.. فهل يليق بفلاح ينشر خبرا كاذبا عن غراميات ولاد القبايل، فأقسم بالله لحامل المسدس القريب من رأسه، اننى قادم للتو من المطار وأخرج جواز السفر ليقرأ التأشيرة بنفسه، وادار قرص تليفون البوفيه يطلب ستة شاى، وانتهت الأزمة بدخول رجال الامن!
قلبتُ الصفحة.. فإذا شريف يجلس على مقهى بملابس يمنية يتأمل المبانى البيضاء المرصعة فوق قمم جبال صنعاء وامامه نادل يملأ فنجانه بالقهوة العدنية، ويسأل مضيفه عبدالله الأحمر: كيف يعود اليمن سعيدا كما كان؟
فكانت الاجابة وحدة اليمنين!
وفى الصفحة المقابلة تلاقت عينى باندهاش فى عين ابطال صورة تجمع نجيب ساويرس مع «الزعيم» الإثيوبى آبى أحمد وتساءلت: ما يسأله الناس عن علاقة صورة الباشمهندس ببناء سد النهضة،
فرد شريف على تساؤلي بأول دروسه للطلاب المتدربين على فن الصحافة الميدانية: لغة الحقيقة التائهة ستبقى الصورة والخبر والوثيقة لا تخمينات السياسة ولا ترندات الميديا: لا تتسرع.. تحسس خطوتك بين المتناقضات بمعلومات، وسأطرح عليك أمثلة، فهذه صورة من بنجلاديش تجمعنى مع الشيخة خالدة ضياء والشيخة حسينة، ظلتا تتصارعان على زعامة الحكومة والمعارضة لعقود فى اكبر جمهورية إسلامية بآسيا!
.. و«لابد ان يشعر مصدرك انك واحد منهم»، فحين كانت تحتفى بنا وزارة الإعلام الكزاخية، مع «الوزير جودة عبدالخالق، حرصت على ارتداء الزى الكازاخى الذى يتعانق فيه الأخضر والأزرق والذهبى، وفى السنغال ارتديت البوبو..الزى الشعبى السائد بعد ان أقسم لى الرئيس عبده ضيوف ـ وهو تلميذ الرئيس الشاعر ليوبولد سنجورـ انه يتمنى فوز منافسه عبدالله واد ليستريح !، فلما ذهبت لموريتانيا بلاد الفقه والشعر وحفظ القرآن، أهدانى الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع «دراعة» وهى عباءة تتميز بأشكال التطريز الجميلة على سروال أزرق سماوى، واما فى افغانستان بين امراء الحرب من رجال سياف ودوستم فى مقاومة الغزو السوفيتى اعتمرت عمامة بيضاء والـ (بيران تونبان) الزى الشعبى لجميع الأفغان، وهكذا..
الصحفى الميدانى تمتد صلته وقرابته لتشمل كل البشر الذين يعايشهم بحكم المهنة التى احبها، سجن شريف فى إثيوبيا وهو يركب حمارا يتحسس مقدمات بناء سد النهضة وحذر ولم يسمع احد!
واحتجز فى إريتريا، وحوصر فى تورا بورا، لكن كل هذا لا يعادل رؤيته صاروخا يحيل منزلا الى حطام فى غزة، ومشاهدته عدة أسر تنتهى حياتهم تحت الركام ضمن المخطط الذي يتواصل الآن لإبادة شعب باكمله!
متعة كتاب شريف قنديل (25 عاما فى صحافة الميدان) ـ الصادر عن دار النخبة ـ فى سرده احداث عشرين سنة تُقرأ فى أقل من 90 دقيقة، كتاب فى مجلة تشعر ان حياة الصحفى مباراة عاشها شريف قنديل على شوطين شوط التأسيس فى دهاليز الصحافة المصرية، وشوط الانطلاق الحافل بتنوع البشر والأحداث، وفى الوقت بدل الضائع قدم خلاصة تجربته فى حقيقة غائبة: الصحافة الميدانية لا تبحث عن المتاعب لكنها تتحرى الحقائق وغوامض الاحداث وتقدمها بالصوت والصورة والوثيقة والانفوجراف بمتعة يفهمها الناس،
هكذا جاء كتاب قنديل درسا لصحافة البودكاست، الشائعة هذه الايام، يجسد مسيرته وصف المتنبي:
فَمَا حَاولتُ فِى أَرْضِ مُقَامًا/
وَلَا أَزْمِعَتْ عَنْ أَرْضِ زَوَالًا.
علَى قَلْقٍ كَأَنَّ الرِّيحَ تحتى/
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية