تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > آن فتحى > حضارة سبعة آلاف عام.. تنهض من الصمت لتكتب فصولًا جديدة

حضارة سبعة آلاف عام.. تنهض من الصمت لتكتب فصولًا جديدة

لم أكن أتصوّر أن لحظة دخول المتحف المصري الكبير يمكن أن تُشبه عبور الزمن ذاته. كان الهواء مختلفًا، مُثقلًا برائحة التاريخ، وممشوقًا كأنفاس حضارة لا تشيخ. توقفتُ عند البوابة للحظةٍ طويلة، أرمق الممر الممتد أمامي، فشعرت أنني لا أسير نحو متحف، بل أتوغل في ذاكرة وطنٍ تنبض في الجدران.
وفي قلب البهو العظيم، كان هو… تمثال رمسيس الثاني، شامخًا كما عهدته في طفولتي.
لكن المشهد الآن كان مختلفًا تمامًا. كنتُ قد رأيته مئات المرات في ميدان رمسيس، ذلك الميدان العريق القديم الذي كان يعجّ بالحركة والضجيج. كنا نمرّ بجواره فنرفع رؤوسنا لنراه من بعيد، وسط الزحام وأصوات السيارات والبائعين. كان هناك جزء من يومنا العادي.
أما الآن، وهو يقف هنا، وسط صمتٍ مهيب وإضاءةٍ تحنو عليه كأنها تهمس له بشكرٍ متأخّر، أدركت أن رمسيس عاد أخيرًا إلى مكانٍ يليق بملكه وهيبته.
حيث تم نقل التمثال الضخم في عام 2006، في واحدة من أعقد وأدق عمليات النقل الأثري في التاريخ، شارك فيها خبراء مصريون وعالميون لتأمين رحلته التي امتدت أكثر من عشرين كيلومترًا من قلب القاهرة إلى الجيزة.
لم يكن الحدث مجرد نقل حجر، بل نقل ذاكرةٍ كاملة من ضوضاء المدينة إلى سكون التاريخ.
واليوم، بعد ما يقارب عقدين، يقف رمسيس في صدر المتحف المصري الكبير، كأنه حارس الذاكرة المصرية، يستقبل الزائرين بابتسامته الحجرية الواثقة، يروي لهم من صمته الطويل كيف تُخلَّد الحضارات.
إن كل خطوة بعدها كانت دهشة جديدة.
فهذا المتحف لا يقدّم معروضاتٍ فحسب، بل تجربة فريدة متكاملة لا يشبهها أي متحف آخر في العالم.
هنا، حيث تتجسّد أكثر من خمسة آلاف عام من الإبداع الإنساني، في حضارة تمتد جذورها إلى سبعة آلاف عام من الضوء والدهشة.
وربما يكمن سحره أيضًا في الحلم الذي وُلد منذ زمن بعيد — ففكرة إنشاء المتحف بدأت في عام 2002، حين قررت مصر أن تضع تراثها في صرحٍ يليق بعظمة حضارتها. ومنذ تلك اللحظة، بدأ العمل على تصميم معماري ضخم يطلّ على الأهرامات، ليكون المتحف ليس فقط بيتًا للآثار، بل نافذة على الماضي والمستقبل معًا.
وهنا تكمن المفاجأة الكبرى التي ينتظرها العالم هذا السبت، الأول من نوفمبر:
الافتتاح الرسمي للمتحف المصري الكبير، الذي سيضم المجموعة الذهبية الكاملة للملك توت عنخ آمون — أكثر من خمسة آلاف قطعة تُعرض للمرة الأولى مجتمعة في مكان واحد منذ اكتشاف المقبرة في وادي الملوك قبل أكثر من قرن.
العرش الذهبي، القناع الشهير، العربات الملكية، الحُلي، أدوات الحياة اليومية، وكل ما حمل بصمات الصبي الفرعوني الذي صار أيقونة الخلود… جميعها ستُعرض بتقنيات عرض وإضاءة تحاكي بيئة المقبرة الأصلية، لتجعل الزائر يعيش لحظة الدهشة ذاتها التي عاشها “هوارد كارتر” حين فتح باب المقبرة عام 1922.
لكن سحر المتحف لا يتوقف عند توت عنخ آمون وحده، فهنا أيضًا مقتنيات نادرة من عصور مختلفة: تماثيل ملوك الدولة القديمة، ومومياوات ملكية، وأدوات طبية وجراحية من العصور المصرية الوسطى، ومقتنيات تعود إلى العصور اليونانية والرومانية والقبطية والإسلامية، في رحلة تمتد عبر أكثر من خمسة آلاف عام من الإبداع الإنساني.
كل قطعة هنا تم اختيارها بعناية، ومعروضة بتقنيات حديثة تُعيد إحياء الماضي أمام عينيك. تشعر أن القطع لا تُعرَض لتُشاهَد فقط، بل لتُحكى وتُفهم وتُعاش.
حين مررت بجناح المقتنيات الملكية، كانت الإضاءة تُسلّط على النقوش الدقيقة فتجعلها تومض كأنها تنبض بالحياة. كل تفصيلة مصمَّمة لتقودك في رحلة داخل العصور المصرية القديمة، دون أن تفقد لحظة من اندهاشك.
الصوت، الضوء، الترتيب، وحتى المسافات بين القطع… كلها عناصر محسوبة لتخاطب حواسك كلها، وليس نظرك فقط.
هذا ليس متحفًا تقليديًا تُحصي فيه عدد القطع الأثرية، بل تجربة حضارية متكاملة تُعيد تعريف معنى المتحف نفسه.
لا مجال للمقارنة بينه وبين أي متحف آخر — فكل شيء فيه يتحدث لغة التفرد: من تصميمه المعماري الذي يحتضن الأهرامات في خلفيته، إلى أنظمة العرض الذكية التي تدمج التاريخ بالتكنولوجيا في مشهدٍ يُدهش العالم.
وفي كل زاوية، تشعر أن مصر أرادت أن تقول شيئًا عميقًا للعالم:
أننا لسنا فقط أصحاب الماضي، بل أيضًا صُنّاع المستقبل.
أننا قادرون على صون ما ورثناه، وتقديمه بروحٍ حديثة تحترم الأصالة دون أن تتقوقع فيها.
وقفتُ في نهاية الجولة أمام الزجاج الذي يطلّ على الأهرامات البعيدة، وشعرتُ أنني أنظر من نافذةٍ على آلاف السنين. هناك، في الأفق، تتعانق الحجارة القديمة مع الزجاج اللامع للمتحف الجديد — مشهدٌ يلخّص رحلة مصر كلها: من الماضي المجيد إلى المستقبل الذي يستحق أن يكون امتدادًا لذلك المجد.
ربما لن أتذكّر كل التفاصيل التقنية التي سمعتها من المرشد، لكنني لن أنسى هذا الإحساس…
إحساس الفخر، والدهشة، والانتماء.
كأن المتحف لم يُبنَ فقط ليُعرض فيه التاريخ، بل ليذكّر كل مصري أن الحضارة ليست ما مضى، بل ما نستطيع أن نحافظ عليه ونقدّمه للعالم من جديد.
خرجت من هناك بخطواتٍ بطيئة، كمن لا يريد أن يغادر الزمن.
لم أقاوم إلا أن أنظر إلى رمسيس الثاني مرةً أخيرة قبل أن أغادر.
ابتسمتُ له في صمت… فقد أدركتُ أن التاريخ، رغم سكونه الظاهري، لا يتوقف عن الحركة.
إنه يتحرّك فينا، في ذاكرتنا، وفي متاحفنا التي تحكي قصتنا من جديد.
وفي النهاية، أدركت أن المتحف المصري الكبير ليس مجرد مكانٍ تُعرض فيه الآثار…
بل مرآة تُعيد إلينا ملامحنا حين كدنا ننساها، وصوتٌ خافت يقول لكل زائر:
“هنا… تبدأ الحكاية من جديد.”

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية