تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

«الست» أم كلثوم

نعم هى «الست» وست الستات كما يقولون. لأنها الفنانة التى استمرت تحافظ على حنجرتها لآخر يوم فى حياتها لمصلحة الشعب المصري. ولأنها الفنانة التى استمرت تقرأ وتغنى وتطرب كل العرب حتى خارت قواها ومنعها المرض من الوقوف صلبة أمام جماهيرها وميكروفونها. نعم إنها الست وست الستات المصريات كلهن. وإذا اردنا التأكد فلنحسب الأموال التى أسهمت أم كلثوم فى إدخالها الخزينة المصرية منذ أن داست قدماها الاراضى القاهرية إلى أن رحلت من جامع عمر مكرم فى هذه الجنازة المهولة التى لم تشهد مثيلتها جنازة فنانة اخرى.

أنا من عشاق الست ليس فنيا فحسب وإنما وطنيا كذلك. ولأنى أنتمى إلى الطبقة الوسطى فقد كانت اسرتى تملك مذياعا انيقا نسمع منه كل الاغانى الجميلة فى الاربعينيات من القرن الماضى لعبدالوهاب ولـ«ليلى مراد» ولعبدالمطلب وطبعا لأم كلثوم. وأتذكر انى تعلمت اغنى قصيدة «سلوا قلبى» وانا صبية صغيرة لم اتجاوز العاشرة من عمرى وكان نطقى لألفاظ القصيدة غير مفهوم كما انى عرفت من المذياع ان مؤلفها هو رجل اسمه «أحمد شوقي». إلى أن اصطحبنى أحد أقربائى مع ابنته إلى معهد الموسيقى العربية «تعالى ح أسمعك واحدة صغيرة بتغنى القصيدة دى، واتعلمى منها» وبالفعل ذهبت ورأيت لأول مرة نجاة الصغيرة تغنى قصيدة «الشاعر» أحمد بك شوقي». وعرفت لأول مرة انه امير الشعراء.

الست أم كلثوم ظاهرة مصرية ريفية لن تتكرر. ولا يمكن تقليدها. وإنما يمكن ان نغنى اغانيها وقصائدها ولكن دون ان نصل إلى ابداعها. لأن الله وهبها حنجرة خاصة خاصة جدا. كما وهبها ابا ريفيا اصيلا فهم حنجرتها ولكنه بالقطع لم يتوقع مستقبلها. وتوقع ان تستمر تنشد وراءه فى الموالد والأفراح الريفية. ولكن لحسن طالع الشعب المصرى أن وقف فى طريقها فنان يفهم جيدا الموسيقى والاصوات، فكان مجيئها الى القاهرة العامرة. ولأنها كانت ذكية للغاية استولت هى على القاهرة قبل ان تستولى عليها القاهرة بسهراتها. وأحاطت نفسها بمجموعة من الأصدقاء الاحباء الذين علموها القراءة والمقامات الموسيقية ثم كيفية التعامل مع الجمهور واحترامه وأهم من كل ذلك كيف تقدر فنها وتحوله إلى مجرى حياة يحترمه ويقدره جمهورها. فالست لم تكبر من العدم وإنما كبرت وباتت قيمة مضافة إلى وطنها بجهدها وعملها الدؤوب. فعلمتنا كيف ننطق اللغة العربية وكيف نغنيها حتى لولم نمتلك حنجرتها الذهبية. علمتنا كيف نحترم الفن ونعيش فيه ثم نعلو معه إلى العلى. لقد غنى الاميون قصائدها لأمير الشعراء ولغيره واحبوها وطالبوا بإعادة سماعها وصفقوا لمقاطعها قبل أن يمسكوا جريدة مصرية لقراءتها.

إنها «الست» التى رفعت من قيمة الصفة وحولتها كالتاج الذى يتوج صاحبته الوحيدة التى لن تتكرر.

لم احضر حفلا واحدا لأم كلثوم ولكنى لم انقطع عن متابعة حفلاتها الشهرية مع والدى ثم مع جدى ثم مع زوجي. وأتصور أن ملايين النساء العربيات كن مثلي. ولا نزال نتابعها فى الساعة الحادية عشرة ليلا على اذاعة الاغانى المصرية. ولا نمل. ونتابع تصفيق جمهورها وتعليقاته. عشرة على عشرة على عشرة يا ست.

هذه هى الفنانة التى أحببناها وأحبها معنا كل العرب نساء ورجالا والذين كانوا يأتون إلى القاهرة يوم الاربعاء الأول من كل شهر ليحضروا حفلاتها ثم ليغادروا القاهرة صباح السبت التالي. وكم من هذه الرحلات القصيرة كانت هدية من العريس لعروسه «فى شهر العسل حنروح القاهرة نحضر حفل أم كلثوم». وكم من مرات سمعت عن هذه الرحلات السياحية القصيرة من صديقات وأصدقاء عرب. كنا نعرفها كفنانة عظيمة لكن ذلك لم يمنعنا من الاعتراف بها كإنسانة تحب وتكره وتخطئ وتصيب. تقترب دائما من السلطة وسدة الحكم. وفى الواقع لم نعرف بالتحديد من اقترب مِنْ من، هل هى التى اقتربت من رأس السلطة أم ان الدنو كان من السلطة للاستفادة من شهرتها وحب الجماهير لها. وأيا كان هذا المن، هى ام السلطة، فلابد من الاعتراف انها لم تفرط لحظة فى فنها وعبقرية حنجرتها.

لكن ذلك لا يبعدنا عن القول الصريح الذى يؤكد أن «سوما» وكل جيلها من عبد الوهاب إلى السنباطى إلى زكريا أحمد إلى إلى كل هؤلاء الكبار ورفاقهم ساروا معها فى طريق سكون الفن الموسيقى المصري. كان فى مقدورها مع رفاقها الفنانين العظام تطوير ما انتهى إليه سيد درويش من فن جماعى مسرحى «الاوبريت» بحيث لا يسيطر علينا فن «الطقطوقة» ويأخذنا بعيدا عن التطوير والتقدم. لقد قطعت مع كل رفاقها الموسيقيين العظام الطريق الذى بدأه سيد درويش ومنعوا تواصله. ولا نستطع ان نضيف اليهم ابو بكر خيرت لأنه يمثل طريقا ثالثا. ولكن لابد ان نذكر ذلك لاننا ننتظر من موسيقيينا العناية بالمستقبل الفنى المصرى الذى هو قيمة حقيقية لنا.

ومع تبيان هذه المشكلة التى نعتبرها مهمة وكبيرة فإننا لا يمكن نسيان الدور الكبير والمنفرد الذى قامت به «الست» العزيزة الى قلوبنا وفى وجداننا فى فترة ما بعد النكسة. كان من الممكن ان تجلس الى ذاتها لتقدم من الفن ما تريده بلا حساب من الآخرين ولكنها اختارت الطريق الاصعب، وهى فى التاسعة والستين من عمرها، تركب الطائرات وتنتقل من بلد الى آخر ومن قارة الى أخرى وتقف مستقيمة الظهر أمام ميكروفونها وجمهورها الواسع لتغنى لمصر ولجيشها. لا يمكن ان ننسى ذلك أبدا. كما لا يمكن ان ننسى ان زعيم بلدها توفى وهى فى إحدى هذه الجولات الوطنية. ستتذكرها أجيال مصرية قادمة. نعم ستبقى «الست» فى الذاكرة العربية.
 

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية