تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

العالم المجنون يسرق الحياة

فى 1960 حدث خلاف بين إدارة مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية وبين بعض العاملين الذين تركوا المستشفى؛ فخرج المجانين إلى الشوارع المحيطة بالمستشفى. وشعر أهالى المنطقة بالذعر وانتشر الخبر بهروب 243 مريض، وتحرك الجميع لإعادة المجانين إلى المستشفى، فاقترح أحد الأطباء أن يخرج هو وبعض المساعدين فى الشوارع وينفذ لعبة القطار التى كان يلعبها مع المجانين فى حديقة المستشفى حين كان يريد أن يجمعهم.

 

وبالفعل خرج ومعه صفارة وأخذ يصفر ويقول المساعدون النداء الذى كانوا يطلقونه كقطار. وبالفعل انضم إليهم المجانين من كل الشوارع والأحياء المحيطة بالمستشفى. ففى كل شارع كان ينضم إلى لعبة القطار مجانين وأدخلوهم المستشفى. ولكن فوجئوا بأن عدد الذين تبعوا لعبة القطار التى كان يلعبها الطبيب مع المجانين فى المستشفى ليس 243 بل وجدوهم 612، فقد وجدوا مجانين لم يكونوا بالمستشفى.

إنها قصة كاشفة لحقيقة إنه ليس كل مجنون فى المستشفى فيوجد مجانين آخرون وسطنا، وليس كل من هم فى خارج مستشفى الأمراض العقلية أسوياء. وهذه حقيقة فيقول فرويد عالم النفس: «كلنا مرضى نفسيون بدرجة أو بأخرى».

فالحقيقة المؤلمة أن اللـه خلق الإنسان بكل دقة ويحمل تكوينا فيه الحق والخير والجمال، ولكن بصمات البشر العنيفة والشريرة فى تكوين الإنسان تترك أثراً يجعله معرضا لتيارات العواصف النفسية التى قد يختار تحت تأثيرها الانحراف عن صورته الجميلة فيعيش مشوهاً من الداخل.

والصحة النفسية من وجهة نظر بعض العلماء أنها التوافق مع الحياة الاجتماعية، وهذا بغض النظر عن صورة هذا المجتمع. فقد يكون المجتمع نفسه مجنوناً أو مختل القيم أو تسوده ثقافة همجية مادية، فهل يكون السواء النفسى هو أن يتوافق الإنسان مع هذا ويتنازل عن ضميره والحق الذى فيه؟ وحين يكون المجتمع به تناقضات يكون الإنسان السوى حسب ما يقضيه مجتمعه.

ويقول علماء النفس أيضاً إن علامة المرض النفسى هو وجود الصراعات الدائمة داخل الإنسان، ولكن كيف يعيش الإنسان الحر والباحث عن العدل فى مجتمع الظلم بدون صراع؟ وكيف يعيش الخير دون صراع مع الشر؟ وكيف لا يجرحون من يحملون نفوسا رقيقة حالمة فى مجتمع عنيف يسحق المشاعر بالأقدام؟

وكتب الأديب الروسى نيقولاى غوغول قصة المعطف يُظهر فيها كيف يسحق المجتمع حياة البسطاء. وقد عاش حياة فيها تناقضات كثيرة، ولكن نجحت رواياته إلى أن تقابل مع أحد رجال الدين المتطرفين الذى أقنعه بأن كل ما يفعله حرام. وكان قد بدأ يكتب فى الجزء الثانى من رواية النفوس الميتة فقام بحرقها وأخذ يصوم حتى يكفر عن أخطائه، وفى النهاية مات وهو فى شبه لوثة عقلية.

وفى رواية المعطف يتكلم عن موظف يقوم بنسخ الكتب وسط زملاء لا يحترمونه لأنه فقير وملابسه حقيرة. وكان يحتمل إهاناتهم وضحكاتهم حتى يعود إلى المنزل يجلس على طاولة قديمة يتناول طعامه بلا شهية ثم ينام ليقوم ويذهب إلى عمله.

ويوماً وهو يرتدى معطفه الذى يحميه من البرد وجده قد تقطع، فذهب إلى الخياط يترجاه أن يُصلحه، ولكنه كان لا يمكن إصلاحه. ونصحه الخياط أن يعمل له معطفا جديدا، وحتى يدبر ثمنه اضطر أن يأكل مرة واحدة فى اليوم ويتنازل عن الشاى والشموع بالمنزل. وظل يحلم باليوم الذى يرتديه فيه.

وجاء هذا اليوم وقد شعر أنه ولد من جديد، خاصة حين ذهب إلى العمل ووجد نظرة المحيطين به قد تغيرت، بل قال أحدهم إنه سيقيم له حفلاً فى المساء. وذهب إلى الحفل وكان يشعر بسعادة لم يشعر بها من قبل، ونزل متأخراً من منزل زميله ولكن فى الليل هجم عليه لصوص أخذوا منه المعطف وضربوه. ورجع يرتدى معطفه القديم.

ونصحه أحد الزملاء أن يتقدم ببلاغ ولكن لم يهتم أحد ببلاغه. فنصحه آخر أن يذهب إلى شخص مهم يجعل السلطات تهتم ببلاغه، وتقابل مع الشخص المهم الذى أخذ يعنفه لأنه تجاسر وقابله وأنه ضيع وقته وأنه وقح لأنه لم يعرف كيف يكلم الأشخاص المهمين وطرده من مكتبه.

ورحل الرجل ليشعر بأنه قد ضاع منه كل شيء، ومن الحزن مرض بالحمى ومات. واستمر كل شيء كما لو كان لم يكن فى الحياة هذا الشخص. ولكن سرت شائعات فى المدينة على وجود شبح يظهر وينتزع المعاطف من فوق أصحابها، إلى أن ظهر هذا الشبح للمسئول الكبير الذى تسبب فى موته وقال له: أخيراً وجدتك، ففزع الشخص المهم ووقع على الأرض، فتقدم الشبح ونزع معطفه ومزقه.

وانتهت القصة بقول غوغول: ولا يزال الشبح يظهر ثم يبتلعه الظلام. وتلك العبارة أراد بها أن يقول لقد كانت حياة هذا المسكين فى معطفه الجديد؛ وقد نزعوا منه حياته لتصير حياته شبحاً يظهر فى الظلام ثم يختفي.

ولكن مع هذا كله فالحقيقة أنه لولا وجود حياة أخرى بعد الموت وفيها يجازى الرب كل واحد حسب أعماله لكانت الحياة لا تحتمل. فلولا الإيمان بالإله وعدله لكانت الحياة شعورا دائما بالعدم والضياع وبلا قيمة.

ويقول غاندي: ماذا يضيرنا فى القليل الذى نحيا عليه إن كان لنا الكثير الذى ننتظره. والكثير هذا قد لا يكون فى هذا العالم ولكن فى الحياة الأخرى، لذلك يقول القديس بولس: خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدي. وتبقى الحقيقة التى تسند حياتنا هى وجود الإله الذى بدونه تكون حياتنا معنى مكسورا، وعدما محققا، وغاية لم تتحقق، فالذى يؤمن بالسماء لا تخنقه الأرض.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية