تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

لو حكينا يا حبيبى

بدأت حياتى بمأساة، لم أولد وملعقة من فضة، أو شوكة من ذهب فى فمى، ولدت وفى فمى ملعقة من الشوك، فلقد ماتت أمى قبل أن أراها، ومن أجل أن تكتمل حلقات المأساة، مات أبى بعد أمى بأسبوعين، الأم أولا ثم الأب، تماما كما يفعل طائر البجع العظيم، فحينما تموت الأنثى، يحزن عليها الذكر، ذلك الحزن الذى يفضى إلى الموت، وهكذا مات أبى!

كان لا بد أن ننتقل أنا وأخوتى الأربعة إلى الزقازيق، لم يكن أمامنا، إلا أن نطرق باب خالنا الموظف، ذى الدخل المحدود،

وأريد أن أسجل، أننى وصلت الزقازيق، ومن قريتنا «الحلوات»، لم يكن عمرى يتجاوز الأربعة أشهر، كانت زجاجة الحليب لا تزال فى فمى، كان حليبا ممزوجا بالخل، فالطفل رغم أنه لا يعى، حينما يفقد أباه وأمه معا، إلا أنه يحس إحساسا داخليا بالفاجعة، ويحتاج إلى سنوات طويلة لكى يضمد الجرح أو الكسر.
 

خالتى هى التى تولت شئون تربيتى بعد وفاة أمى، مأساتى تشبه مآسى كل الأطفال، فهم يتذكرون الأيدى التى تمتد لهم بالحلوى، وكانت خالتى تحدثنى دائما عن وجهى، كأنها لا تذكر غير هذا الوجه، وكأن الشىء الوحيد المميز فى حياتى، هو وجهى!

هل يمكن أن يتصور القراء مأساتى

، أنا الذى أدين بشهرتى، لصوتى، لم يكن لى أى صوت مميز، بل كان لى ذلك الوجه المميز، ولكن ما الذى كان يجذب العيون إلى وجهى؟

كانت خالتى تقول إن الحزن هو الذى يجذب إلى العيون، كما يجذب حجر المغناطيس إليه الإبر من الفولاذ. كنت حزينا من اللحظة الأولى، أو من العام الأول، كأننى كنت أحس، وأنا لا أعى أننى فقدت أمى أولا، ثم فقدت بعدها أبى، وكان خالى رحيما بى.

كان بإمكانه أن يلقى بى فى أحد أركان حجرات البيت ولا يرسل بى إلى المدرسة، فلقد كان موظفا بدخل محدود، ومع ذلك أرسل بى إلى «الكتاب» الذى تعلمت فيه القراءة والكتابة وأنا طفل فى الرابعة من عمرى، كنت أخاف من «عريف» الكتاب لكى لا ينهال علىّ بكفه، وكنت أخاف من «شيخ» الكتاب لكى لا ينهال علىّ بعصاه. 

وذات يوم حاولت أن أهرب لأول مرة فى حياتى، فقد ضقت بحياة «الكتاب»، وضقت بالشيخ وصبيه العريف، كنت أريد أن أمارس طفولتى بكل ما فيها من عبث كما يمارسها كل الأطفال،

وخيل إلىّ أننى لن أتوه أبدا،

وأننى سوف أستطيع العودة ثانية إلى القرية، لكنى وجدت نفسى فى قرية غريبة تماما عنى لا أعرفها، بكيت، وماذا يفعل الطفل حينما يضيع غير أن يبكى؟ 

لا بد أن ينادى الطفل على أمه وأبيه، فرحت أنادى عليهما، وهما كانا تحت التراب، هل يوجد أفظع من هذه المأساة، أن يقوم الطفل بالنداء على شيء مفقود؟!

لقد ظللت أبكى حتى أغمى علىّ، وصحوت على يد امرأة تحملنى، كان الوجه الأول الذى لن أنساه طيلة حياتى، رغم أننى نسيت الاسم، حملتنى تلك المرأة الطيبة إلى بيتها، أطعمتنى، ثم سألتنى عن القرية التى جئت منها فقلت لها إننى جئت من «الزقازيق»، وكان اسم البلدة هو أول الخيط الذى أمسكت به السيدة لتعود بى إلى بيتى، وقبل أن أعود وكان خالى يطوف الشوارع، ويستأجر المنادين لكى ينادوا على طفل ضائع، وعرفت حينما كبرت أن المكافأة التى طلبتها هذه السيدة الطيبة هى ألا أعود إلى الكتاب وعصا الشيخ وكف العريف مرة أخرى، لأنها علمت منى سبب هروبى من «الكتاب» ومعاناتى مع الشيخ وصبيه العريف، وأبلغت خالى بذلك،

لم أعد أذهب إلى الكتاب، أحضر لى خالى مدرسا خاصا ليقوم بتعليمى حتى أكون مؤهلا لدخول المرحلة الابتدائية التى التحقت بها وأنا لم أتم السادسة من العمر. 

..............................................

من مذكرات عبد الحليم

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية