تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > الشاعر السودانى معاوية ماجد > صالح إبراهيم .. احتفاء بالكلمة التي بنت الوعي ولم تبحث عن الضوء

صالح إبراهيم .. احتفاء بالكلمة التي بنت الوعي ولم تبحث عن الضوء

تولد الصحافة المصرية بوصفها ممارسة مهنية محايدة، بل تشكلت منذ لحظتها الأولى كفعل معرفة وسلطة، وكسؤال مبكر عن العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الكلمة والقوة.

فمنذ أن حملت الحملة الفرنسية مطبعتها إلى أرض مصر عام 1798، لم تكن الصحف التي أصدرتها مجرد نشرات إخبارية، بل أدوات لإعادة تنظيم الواقع وصياغة الوعي. كانت لو كوريه دوليجيبت ولاديكاد إيجبسين تعبيرًا مبكرًا عن دخول مصر عصر الكلمة المطبوعة، حيث لم تعد المعرفة حبيسة المخطوط أو المجالس، بل صارت جزءًا من بنية الحكم والإدارة.

غير أن التحول الجوهري في تاريخ الصحافة المصرية جاء مع مشروع محمد علي باشا، حين أصدر الوقائع المصرية في ديسمبر 1828، لتصبح الصحافة جزءًا عضوياً من جهاز الدولة الحديثة. هنا لم تعد الصحيفة أداة خبرية فحسب، بل مؤسسة تربوية وثقافية، أسهمت في صناعة لغة سياسية جديدة، وربطت بين التحديث والإدارة والتعليم. 

ومن هذه النواة الرسمية، تفرعت لاحقًا الصحافة الأهلية والوطنية، التي وجدت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مجالًا واسعًا للنمو والاشتباك مع المجتمع، فظهرت صحف النقد والسخرية، والصحف الوطنية التي حملت أسئلة الاستقلال والهوية، والمجلات العلمية والأدبية التي وسعت أفق الصحافة من الخبر إلى الفكر.

ومع دخول القرن العشرين، تعقد المشهد الصحفي وتكثفت أدواره، فصار مرآة لتحولات المجتمع السياسية والاجتماعية، وساحة لصراع الأفكار، ومنبرًا لقضايا الوعي العام، بما في ذلك بروز الصحافة النسائية التي عكست تحولات التعليم ومكانة المرأة. في هذا السياق التاريخي الطويل، لم تكن الصحافة مجرد مؤسسات، بل قامات إنسانية حملت المهنة بوصفها رسالة أخلاقية ومعرفية، لا مجرد وظيفة عابرة.

من بين هذه القامات، يبرز اسم الأستاذ صالح إبراهيم بوصفه نموذجًا للصحفي الذي تشكل وعيه داخل تقاليد الصحافة المصرية، وتشرب قيمها، وشارك في تطويرها عبر مسيرة طويلة ومتشعبة.

ولد بالقاهرة عام 1943، ونشأ في بيئة جعلت من التعليم والمعرفة مدخلًا للترقي والوعي. منذ الصف الثاني الثانوي أدرك حبه للصحافة، عندما شارك في مسابقة صحف الحائط بمدرسته، وأبدع صحيفة حائط غير تقليدية، مقلدًا الصفحة الأولى لصحيفة يومية لكنه أضاف محتوى يهم الطلاب والمدرسين.

وعندما ألقي عليه الضوء بعد ذلك، واجه العقوبة بصبر وشجاعة، وتم تكريمه لاحقًا بجائزة مالية وهدية أدبية ملهمة، ونصيحة من المدرس المشرف على أن يستمر في اتباع حلمه الصحفي.

دخل جامعة القاهرة عام 1958 في سن الخامسة عشرة، الأمر الذي كان مثارًا للدهشة والاستفسارات، وممزوجًا أحيانًا بالمواقف الطريفة والمقالب البريئة، إلى أن وصل خبره إلى الصحفي الراحل سعيد صادق، الذي اصطحبه في سيارته الحمراء إلى مبنى صحيفة الجمهورية القديم بشارع زكريا أحمد، وأدخله فورًا إلى رئيس التحرير، الصحفي العملاق الأستاذ جلال الحمامصي، الذي حاوره في الصحافة والسياسة والأدب، واستغرق الحوار نصف ساعة تقريبًا من وقته الثمين، قبل أن يعرض عليه فرصة التدريب في صحيفة الجمهورية. ومنذ ذلك الحين أصبحت الجمهورية بيته الأول.

تدرج الأستاذ صالح إبراهيم في سلم الصحافة المصرية، من العمل الميداني في قسم التحقيقات إلى المناصب القيادية، شاغلًا منصب نائب رئيس قسم التحقيقات، ثم رئيس القسم، وصولًا إلى نائب أول رئيس التحرير، والمسؤول عن إصدار الصحيفة. وتميز بقدرته على الجمع بين الصرامة المهنية والانفتاح على الأفكار الجديدة، ومتابعة كل التفاصيل الصغيرة في التحرير والكتابة.

إلى جانب الصحافة، يتميز الأستاذ صالح إبراهيم بكونه محللًا رياضيًا لا يشق له غبار، حيث جمع بين أدواته الفريدة في التحليل، وحبه العميق لكرة القدم، واهتمامه بفرق بلده مصر. وقد جعل هذا الشغف جزءًا من شخصيته المهنية، معتبرًا الرياضة امتدادًا للفكر والمنهجية نفسها التي تتطلبها الصحافة الدقيقة، مما أضفى على تحليلاته بعدًا معرفيًا وأخلاقيًا مختلفًا.

امتدت مسيرته المهنية أيضًا إلى المملكة العربية السعودية، حيث عمل في صحيفة عكاظ مستشارًا ومسؤولًا، ثم في مؤسسة تهامة للإعلان والعلاقات العامة والدراسات التسويقية، أكبر مؤسسة من نوعها في المنطقة، وأنشأ القسم الصحفي ضمن إدارة العلاقات العامة، مطورًا مهارات العديد من الشباب السعودي والمصري والسوداني، مستندًا إلى دراسته لفن العلاقات العامة على يد الأستاذ الراحل الدكتور إبراهيم أمام.

وعند عودته إلى مصر، استكمل رحلته في الجمهورية، مستلمًا مناصب قيادية، حيث أبدع في إطلاق صفحات مثل رمضان والناس، التي تميزت بعناية في التفاعل مع القراء من جميع الفئات، ونجحت نجاحًا قياسيًا، حتى حظي بالتهنئة من الصحف المنافسة.

كما واصل عمله بعد تقاعده في الديسك المركزي لصحيفة الجمهورية المسؤول عن إصدارها، مكتسبًا ومصدرًا لخبرة واسعة، وواصل شغفه في الكتابة عبر كتابة المقال الأسبوعي في صفحة الرأي، محافظًا على الموضوعية والالتزام بالقيم الصحفية.

في كتاباته، ولا سيما عموده الراتب على ورق الورد، تتجلى شخصية صحفية مختلفة، تمتزج فيها المهارة المهنية مع الحس الأدبي والفكري، حيث يكتب من موقع المثقف الذي يرى في الكلمة فعلًا إنسانيًا وجسرًا بين التجربة الذاتية والهم العام.

وعلى المستوى الأسري، يمثل الأستاذ صالح إبراهيم نموذجًا نادرًا للتوازن بين الحياة العامة والخاصة. هو الأب والجد، والمرجع التربوي والأخلاقي، الذي انتقلت قيمه إلى أبنائه وأحفاده بالفعل لا بالقول. نجاح أبنائه في مجالات مختلفة، من العمل المصرفي والأمني إلى الهندسة والتكنولوجيا، واستمرار ابنته الأستاذة أماني في العمل الصحفي من موقع قيادي بوصفها مساعد رئيس تحرير صحيفة الجمهورية والمشرفة على صفحة الشباب، يعكس انتقالًا عضوياً للقيم المهنية والإنسانية عبر الأجيال.

إن الحديث عن صالح إبراهيم لا يقتصر على سرد سيرة شخصية، بل هو استدعاء لمعنى الصحافة حين تكون التزامًا أخلاقيًا وخدمة عامة وذاكرة حية للدولة والمجتمع. هو نموذج للصحفي المختلف، الذي لم يبحث عن الأضواء، ولم تغره المناصب، وبقي وفيا لفكرة أن الصحافة مسؤولية قبل أن تكون سلطة، ورسالة قبل أن تكون مهنة.

ومن هذا المنطلق، يصبح الاحتفاء بهذه القامة واجبًا وطنيًا لا مجاملة شخصية. إن تكريم الأستاذ صالح إبراهيم من قبل الدولة ومؤسساتها الثقافية والإعلامية هو في جوهره تكريم لجيل كامل أسهم في بناء الوعي العام، وحافظ على المهنية في زمن التحولات. وهو أيضًا تكريم للصحافة نفسها، حين تعترف الدولة بمن جعلوا من الكلمة ضميرًا، ومن العمل الصحفي فعلاً حضاريًا، يستحق أن يظل حاضرًا في الذاكرة الوطنية نموذجًا لما ينبغي أن يكون عليه عالم الصحافة، حين تبني الكلمة الوعي، ولا تبحث عن الضوء.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية