تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

هل يفعلها «الأزهرى»؟

أتخيل نفسى متقدمًا بخطى واثقة هادئة نحو سلالم المنبر الخشبى البهى القابع داخل أحد المساجد؛ من بعد أن رُفع الأذان؛ ثم أجدنى أصعد درجاته شيئا فشيئا حتى أعتليه؛ ثم أجدنى ألتفت فى مواجهة المصلين الجالسين؛ المنتظرين لما سألقيه عليهم من خطبة فى يوم جمعة مباركة؛ وقد نهاهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه عن الالتفات عما سأقوله ولو بمجرد الانشغال لوهلة، ليس فقط بتحريك حصاة، بل بمسها، قال: (ومن مس الحصى فقد لغا)، رواه مسلم؛ ومعنى (لغا) أى لغت جمعته، أى فقد ثواب الجمعة؛ كناية عن أهمية الانتباه بمنتهى الحرص والجدية لما يقوله الخطيب على المنبر.

 

كلام جميل حقًا.. ولكن، ترى بماذا سأخطب فعليًا فى الحاضرين بالمقابل، على قدر ما أُلقى على عاتقى من هكذا مسئولية جسيمة تجاههم؟ هل ترانى سأجتر ما حفظه المصلون عن ظهر قلب من قصص وعِبَر وحكاوي؛ فأكون قد التزمت هكذا بكلاسيكيات وتقاليد الخطبة كما توارثها السلف؟ أم ترانى سأسعى لشق طريق مختلف يتواكب مع معطيات عصر يموج بكل جديد (لحظيًا) بالمعنى الحرفى الدقيق للكلمة؟.. تلك هى المسألة؛ وتلك هى المصيبة!. ثم أسأل نفسى فى صمت نيابة عن الخطيب وقد وجهت وجهى تلقاء المصلين: هل ترى كل هؤلاء أمامى ينتمون لطبقة ثقافية وتعليمية واحدة؛ أم تراهم أشبه بفسيفساء تعليمى ثقافى متنوع يصعب الجمع بين عناصره فى مكان واحد إلا بشق الأنفس؟

وعليه، فهل يتعين علىَّ أن أهبط بمستوى خطابى إلى أقلهم ثقافة وتعليمًا؛ أم تراه يتعين علىّ أن أخاطب أعلاهم و(أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً)؟ أما وإن كنت قد اخترت الهبوط، فهذا أمر سهل يسير؛ وأما إن كنت قد اخترت الارتقاء والصعود، فهناك سؤال أكثر أهمية وإلحاحًا يفرض نفسه على المشهد فرضًا: فهل أنا، كخطيب، مؤهل أساسًا لمخاطبة رفيعى الثقافة من المصلين الصامتين (الصابرين) من أمامى امتثالا لأوامر النبى صلى الله عليه وسلم؟ بل ويبزغ فجأة وهج سؤال أشد وطأة فيطيح بالمشهد برمته: هل أنا جدير بأن أعتلى هذا المنبر والاضطلاع بهكذا مسئولية أساسًا؟

سؤال أترك للعالِم الجليل والمعلم المتمكن فضيلة الدكتور أسامة الأزهرى، وزير الأوقاف الجديد، الإجابة عنه بما عرفناه عنه من صدق وموضوعية.

والحقيقة أننى لم ألتقه وجها لوجه يومًا أبدًا؛ ولكننى من أشد المعجبين بعلمه، وثقافته، وحُسن خلقه، ولُطف حضوره وحديثه، وقوة منطقه فى جميع الحوارات والمناظرات التى تم استدعاؤه إليها؛ عالِم، هادئ، دمث الخلق، ملم بتفاصيل ما يقول إلى أبعد مدى؛ وفى ذلك، أذكر له مناظرة قوية حصيفة مع أحد (مدعي) الثقافة الإسلامية؛ ممن نصَّبوا من أنفسهم، دون تكليف من أحد، ودون سند، حماةً للدين القويم؛ فراحوا يسعون كل السعى (لهدم) أسس هذا الدين بمعاول (التجديد)؛ من أجل تأسيس تيار (بروتستانتى إسلامي)؛ والعزف على إيقاع المستشرقين، المتربصين، الباحثين عن توسيع ما يتصورونه ثغرة هنا أو فجوة هناك.. وما لكلامهم وزن أو ضُحَّى!. وأذكر كيف ظل صامتًا بطول اللقاء إلى أن أفرغ مُناظِرُه كل ما فى جعبته من منطق وبراهين؛ وقد زينها بقنبلة دخانية (كالعادة)؛ بأن حدد العبارات التى يرتكز عليها فى تأصيل وجهة نظره من مقدمة (كتاب الموطأ) للإمام مالك ... ثم ليأتى الدور على عالمنا الجليل، فيتكلم، فنكتشف معه أنه لا توجد مقدمة (أساسًا) بكتاب الموطأ للاستدلال بها!! بل ونكتشف أن الكتاب الذى استند إليه المُناظِر، كتاب (التحرير والتنوير)، للتدليل على كلام مقدمة (غير موجودة) أساسًا فى كتاب الإمام مالك، هو كتاب للطاهر بن عاشور، المتوفى عام 1973 (ميلادية)!! صدمة، أليس كذلك؟

نحن إذن أمام خلط متعمد للحابل بالنابل ربما يَخِيل على البسطاء، وليس العلماء أبدًا؛ للإيحاء زيفًا بالعلم، والثقافة، وواسع الاطلاع؛ فيما يمس ثوابت عقائد الناس بلا سند أو مبرر أو حتى داع (مستغلا جهلهم)؛ لاقتناص لقطة (الشو الإعلامي)؛ بامتطاء صهوة جواد كسيح عجوز لا يقوى على السير أصلًا؛ فى مواجهة جياد ديانة عفية، حيَّة، (متجددة بطبيعتها)، لم يستطع الزمن أو اختلاف الثقافات التى اخترقتها، وتوطنت بأعماق حواضرها، وفيافيها أن تشق لجيادها غبارًا!!

معالى الوزير المحترم، (غالبية) الناس لا تعرف أبسط تعاليم دينها؛ وتجادل فى توافه الأمور؛ ولا ترى عظائمها؛ فالناس لا تعرف حتى متى ترفع أيديها فى تكبيرات الصلاة؟ الناس لا تعرف الفرق بين فروض الوضوء وسننه؛ الناس لا تعرف شروط المسح على الجورب فى الوضوء فى مقابل (حتمية) غسل القدمين؛ بل يختلفون على مبطلات الوضوء أصلًا؛ الناس تجهل الاختلافات بين المذاهب الأربعة الرئيسية بشأن قراءة الفاتحة وقصار السوَر فى الصلاة؛ بل إن (أَنَاسِیَّ كَثِیرا) قضوا وهم ما زالوا لا يعرفون معنى (رَب الفَلَقِ) أو (غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ)!! وغيرهم قضوا ولم يفهموا مراتب الحديث الشريف وأنواعه؛ بل منهم من لا يزال يصدمه معرفيًا وجود قراءات عشر للقرآن أساسًا!.

معالى الوزير، مادة التربية الدينية المدرسية مادة شكلية لا تسمن ولاتغنى من جوع؛ وأذرع الإعلام و(وسائل التواصل الاجتماعي) لا يُعوَّل عليها؛ لكونها ساحات تعج باهتمامات كثيرة (أخرى) يحتل الدين فيها مساحة ضئيلة؛ فضلا عن كونها فى كثير من الأحيان (مُضلِّلَة)؛ ولا يستطيع أحد توجيه اللوم إليها فى ذلك؛ لكونها ليست منوطة بهكذا دور؛ أما المساجد (فأعتقد) أنه لا اهتمام لها سوى توجيه و(تثقيف) الناس دينيا؛ وليس فقط أداء الصلوات؛ ولا يخفى عليك أن الفقه الإسلامى منهل لا يجف بمذاهبه، وسجالاته، وعلمائه، وتلاميذه؛ بما أصبح يستوجب فتح الأبواب على مصاريعها للدعاة والخطباء أن ينهلوا من روافده؛ فيفيضوا منها على الناس من فوق المنابر؛ وهذا لا يقلل من أهمية روايات السيرة المطهرة أو القصص والعبر، وإنما يفتح نوافذ معرفية مهمة (مغلقة) لا يسبر أغوارها سوى طلاب الأزهر الأجلاء (وحدهم).

سيسأل سائل: أتريد تحويل منابر المساجد إلى منارات (أسبوعية) (للتثقيف الدينى الممنهج) بدلا من الخُطب التقليدية (الشكلية) التى باتت تراعى الطقس بأكثر من الجوهر؟

الإجابة : نعم. فهل يفعلها (الأزهرى)؟

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية