تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
عدوى البلاهة !!
هناك مقولة عبقرية للروائى الفرنسى الكبير، ألكسندر دوما، أراها معبرة بقوة عن الواقع الذى نعيشه الآن، قال: (أُفَضِّلُ المحتالين على البلهاء؛ ذلك لأن المحتالين يأخذون قسطًا من الراحة أحيانًا)!!
صحيح، فالبلهاء لا يتوقفون أبدًا عن بلاهتهم؛ تسوق إليهم (السماء) دليلًا تلو دليل؛ وبرهانًا من وراء برهان؛ ولكنهم لا يحيدون عن فكرتهم البلهاء أبدًا: فالمدن تهوى من حولهم، والبنى التحتية تتهدم، والأطفال تتيتم، والنساء تترمل، والرجال تقضى، بل والحيوانات تنفق، وما زالت البلاهة تداعب عقول البلهاء بإصرار مريب؛ (فتزِّين) لهم مشاهد أكاليل الغار زاهية؛ والألعاب النارية ساطعة تنير السماوات العُلا؛ والجماهير تتدفق من كل حَدَب وصوب لتحملهم فوق الأعناق فرحة (بالنصر)؛ فى مواكب عُرس غير مسبوقة؛ تجوب شوارع المدينة المنتصرة حتى مطلع الفجر!! وهذا هو عين الخرف.
فمن أكبر الأخطاء التى يقع فيها (مغاوير) المسلمين (المعاصرين) حين المواجهة مع الإسرائيليين هى الاعتقاد بأن الحرب ضدهم تشكل صداما دينيا فى المقام الأول ذا طيف عسكرى فى المقام (الأخير)؛ فى معترك (لابد) أن تنصر السماءُ فيه الإسلامَ على (أعداء الإسلام)؛ غافلين أن الحرب ضد إسرائيل هى فى حقيقتها صدام عسكرى فى المقام (الأول والأخير) ذو طيف دينى من بعيد (جدًا)؛ ولنا فى معارك لم ينتصر فيها الرسول نفسه، صلوات الله وسلامه عليه، خير دليل!!
فعندما نقول (صدامًا عسكريًا) لابد لنا من وضع عناصر محددة نصب أعيننا؛ تتداخل جميعها لتحدد من سيكون المهزوم (حتمًا) ومن سيكون المنتصر؛ فنحن نتكلم عن نوعية أسلحة، وقدرات تكنولوجية، وقوة نيرانية، وتكتيكات عسكرية، وأسلحة معاونة، وتدريبات مضنية، وقدرة على التخطيط، وخبرات ميدانية متراكمة، وأساليب عسكرية متوارثة، وأخرى مبتكرة، وخطوط دعم، وإمداد، وتموين، ومن قبل كل هذا، جاهزية اقتصادية... وجميعها عناصر لا تتأتى لمجرد استدعاء نشوة اقتتال عنترية عابرة، أو ارتداء بدلة عسكرية وقبعة، والحصول على صاروخين من هنا أو هناك؛ ولذا تتحسب (الجيوش النظامية) حين المواجهة؛ أما المغاوير (فشجاعتهم) مفرطة!!
لست انهزاميًا؛ لكنه وبإعمال قليل من المنطق؛ وبفحص معطيات الواقع (المرير)، فإن الأمر لا يحتاج جهدًا لاستبيان أن الحرب عموما، وضد إسرائيل خصوصا، لم ولن تكون يومًا نزهة!!
ولكن يظل بيننا مَن يتغافل عن كل هذه العناصر ويسقطها عمدًا من المعادلة: وإن ظل إطلاق اسم (حرب) على ما يحدث فى غزة خطأ إعلاميا كبيرا؛ فما هى بحرب؛ وإنما مجموعة من مجازر ارتُكبت ضد (مدنيين عُزَّل)؛ ذلك لأن الحرب تعنى وجود طرفين متقاتلين؛ فأين هما طرفا الحرب فيما رأيناه من عنتريات إسرائيلية ضد العُزَّل، حتى نسميها حربًا؟
فما إن كاد مولد غزة ينفض بتواتر أنباء (رسمية) إسرائيلية عن قرب انتهاء العمليات؛ وإعلان القضاء على قدرات حماس العسكرية نهائيًا، حتى بدأت إسرائيل تلتفت نحو الشمال صوب حزب الله ــ لبنان، هذا البلد المغلوب على أمره؛ الذى لم يأل جهدا منذ أن اندلعت (الجرائم) فى التعبير عن عميق مخاوفه، ورفضه القاطع لما يجُرُّه (حزب الله) إليه؛ وهى الضربة التالية التى توقعناها ونبهنا إليها منذ اشتعال شرارة العدوان على غزة ــ راجع مقالى المنشور على صفحات (الأهرام) بعنوان (الضلع الغائب فى المثلث)؛ ثم ها أنا أُذَكِّرَك ثانيةً بأن (غدًا إيران)؛ وهو ما يثير علامات استفهام حول عملية السابع من أكتوبر برمتها كذريعة ربما (تم غض الطرف عنها استخباراتيا) للتخلص من (كل) الأعداء بمبرر واحد!!
فبدلا من أن يستغل (حزب الله)، ومَنْ يقفون خلفه، انشغال جيش (الدفاع) فى الجرائم بغزة، فيشكل جبهة ضغط من الشمال، ما دامت المواجهة متوقعة إن آجلا أم عاجلا، إذا بهم يؤثرون الصمت بطول نحو تسعة أشهر من المذابح؛ اللهم إلا من بعض رشقات فارغة ذرًا للرماد بالعيون؛ تاركين الساحة لجنود الاحتلال يرتعون بدم بارد بالقطاع!! ويكأن مغاوير الحزب، ومن هُم وراءهم، إما تصوروا بالخطأ أن الغلبة ستكون للمقاومة بأسلحة يدوية الصنع فى مواجهة أسلحة أمريكية عاتية (وتلك طامة فكرية كبرى)!! وإما أنهم أدركوا تماما منذ البداية أنهم عاجزون عن المواجهة بأى حال؛ فآثروا مراقبة المشهد (من داخل المخابئ)؛ بانتظار ما ستسفر عنه الأيام؛ وهو ما يجعل تصريحات (نصرالله) العنترية اليوم نموذجًا بحق (لطق الحَنَك)!!
ولأن البلاهة فيما يبدو عدوى، فإن المشهد تمخض عن ظهور مفاجئ ( لرجل رشيد) من بنى إسرائيل استوقفتنى تصريحاته: فبالرغم من أن يديه مخضبتان بدماء الأبرياء كبقية أقرانه، إلا أنه أنطقه الله (الَّذِی أَنطَقَ كُلَّ شَیء)؛ حيث انبرى (الناطق) باسم الجيش الإسرائيلى، دانيال هاجارى، من دون أى تكليف من أحد (فيما يبدو)، بقوله: (لا يمكن القضاء على حماس كأيديولوجية)؛ ثم زاد الطينة بلة بقوله: (إن استعادة الأسرى الإسرائيليين لن تتأتى باستخدام القوة)؛ وكأنه قد أقر (رسميًا) فى لمح بالبصر (بعبثية) العمليات العسكرية الإسرائيلية جملة وتفصيلًا؛ وأنها كانت مجرد أعمال قتل من أجل القتل!! وهى التصريحات التى دفعت نيتانياهو، ورفيقه على درب الإجرام، وزير دفاعه، يوآف جالانت، إلى المسارعة لاستنكارها فورًا؛ خوف استثارة شكوك الحلفاء بشأن ما روجا له عالميًا بأن هكذا جرائم هى من أجل: القضاء على حماس؛ واستعادة أسراهم؛ وتوفير مناطق آمنة لسكان دولة إسرائيل (المسالمين الأطياب)!!
نحن إذن أمام صنفين من البلاهة: بلاهة الاعتقاد بالقدرة على مواجهة جيش نظامى (مخضرم) بأسلحة بالية و(بدعوات المصلين)؛ فى مقابل بلاهة الاعتقاد بأن قصف المدن، وقتل الأبرياء، والتنكيل بهم، سيؤدى (حتمًا) إلى اختفاء الشعور بالظلم، وانعدام احتمالية انبثاق (الآلاف) من حركات المقاومة!!
وكما بدأت مقالى بمقولة عبقرية لألكسندر دوما، فلا يسعنى إلا أن أختتمه بأخرى ولكن للفيلسوف اليونانى أفلاطون هذه المرة؛ والذى أوجز من خلالها فى وصف عبثية الحروب (عمومًا)؛ وكذا دائرة العنف التى (تتولد) عنها (لا محالة) بعد ذلك، حين قال: (الموتى فقط هم من شهدوا نهايةً للحرب)!!
وهذا صحيح.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية