تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
صافحت الإمام !
دق جرس التليفون المحمول، وكعادتى لم أتلهف كثيرا للرد، إذ أثبتت التجربة دومًا أن هكذا اتصالات من أرقام غير مسجلة غالبًا ما تحمل إلينا جهودًا تسويقية لحوحة ما أنزل بها الله من سلطان!
لم أجد بُدًا من أن أرد، فبادرنى المتصل متسائلًا: حضرتك فلان الفلاني؟ قلت: نعم، وقد أسلمت أمرى لله، واعتبرت نفسى قد وقعت فى الفخ لا محالة، فبادرنى مُرحِّبًا: أنا فلان الفلانى وكيل الأزهر الشريف.
لست معتادًا على تلقى اتصال من هكذا جهة، لذا فقد حدثتنى نفسى فى عجالة، وأنا الذى كنت قد كتبت لتوى مقالًا ذا طابع دينى فى الأسبوع المنصرم: لعلى تجاوزت حدًا غير مسموح به دينيا فى المقال بغير قصد، أو ربما لامست مساحةً من الفكر أعجبت الرجل مثلًا، فأراد أن يشيد بها.
فاجأنى الرجل: فضيلة الإمام الأكبر، الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، يود التحدث إليك عبر الهاتف!!
تعاظم صوت الرجل فى أذنى جليا عندما سمعت اسم الإمام، واختلطت المشاعر فى نفسى ما بين فرح وقلق، إذ لم يزل يغلب على تصورى الإحساس باحتمالية أن أكون قد تجاوزت مساحة لم يك مسموحا لى أن أتجاوزها، وإلا فلماذا يتصل بى الإمام الأكبر شخصيًا؟
ما هى إلا ثوان معدودات حتى وجدت صوت الإمام يدوى بالفعل فى مسامعي، يلقى علىَّ السلام!! نعم، أنا أعرف هذا الصوت جيدًا، فهو صوت لا تخطئه الآذان.
قال: فى الواقع، لقد قرأت مقالك بعنوان (تكوين السم فى العسل) على صفحات (الأهرام)، فأردت أن أحييك على ما كتبت ــ هكذا قال الإمام.
لم أتمالك نفسى بصراحة من فرط الفرحة، فأفرغت لفضيلته كل ما يجيش بصدرى تجاهه من مشاعر إجلال، وإعجاب، واحترام لشخصه الكريم، وعلمه الغزير، ومكانته الرفيعة فى القلوب. فلما امتد الحديث بعض الشيء، أكرمنى فضيلته بتحديد موعد للقائه بمشيخة الأزهر، فكان خير اتصال وكان خير ختام.
وفى اليوم الموعود، ذهبت أحمل ما فى جعبتى من أحلام وأفكار وكثيرًا من هموم حياة، ولكننى كنت على يقين تام من أن وجودى فى حضرة هذا الإمام التقى، النقى، الطيب، الذى قلما يجود بمثله الزمان، سيكون مغتسلًا باردًا وشرابًا من كل نُصبٍ وعذاب، وكنت على يقين أيضًا من أن لقاء كهذا لابد وأنه مكافأة لى من رب كريم، فما أنا سوى مجرد شخص عادي، من مجمل عشرات من أشخاص قد يحظون بمقابلة فضيلته فى كل يوم، ولكنه بالنسبة لى أنا إنجاز لا يضاهيه إنجاز، ومنعطف تاريخى مفصلى كبير فى تاريخى المهنى والشخصي، وذكرى تستحق أن أؤرخ لها بين أولادى وأحفادى، إذا ما امتد بى العمر، فمن أهم من الإمام مكانةً ترانى سألتقى على مدى ما تبقى من الأيام؟
لم يطل انتظارى طويلًا بصالون الضيافة بالمشيخة، حتى دعونى للقاء الإمام، وهنا.. تسارعت نبضات القلب، وتعثرت الخطى فى هذا البهو الفخم المؤدى إليه، وتبعثرت بحق كل خواطرى والأفكار... ثم إذا بى أجده واقفًا على مبعدة مُرحِّبًا، ناظرًا تلقائى عند مدخل غرفة مكتبه، تلك الغرفة الرحبة التى تفيض حتمًا بالخير والبركات، عيناه المتفحصتان توحيان بمنتهى الجدية، ولكنها جدية من نوع خاص، تمتزج بسكينة العارفين، المؤمنين، القانتين، الصادقين، الصابرين، الخاشعين، المتصدقين، الصائمين، الذاكرين الله، وهى تركيبة روحية (صوفية) خاصة جدًا تجعل صاحبها غير مكترث بمظاهر الأشياء، وإن اشتد بريقها وتوهجت، بل وتجده مشفقًا على من ينجذب لمثلها، وهو المنجذب أصلًا إلى من ليس كمثله شىء، السميع، البصير.. سبحانه، وطبيعى إذن أن تتساوى فى عينيه المباهج والعذابات، الأضواء والعتمات، الأحياء والأموات، من بعد أن دعاه مولاه عزَّ وجل للطواف فى أفلاك الذكر والأوراد التى لا يستشعرها إلا من ذاق الحياة, تصديقا لقول القطب الصوفى الجليل، مولانا جلال الدين الرومي: كل نفس ذائقة الموت، ولكن ليست كل نفس ذائقة الحياة!!
فأوجز فى وصف حلاوة الذِّكْر، ورشفات الإيمان. صافحت الإمام، فوجدت نفسى أعانقه، وكأننى التقيته من قبل وجالسته لعشرات المرات، وأنا الذى لم أتشرف بلقائه إلا فى هذا اليوم المبارك الجميل من مجمل الأيام!!
صحيح أنه يجلس أمامى بتواضع العلماء، ولكنى أراه مرتفعًا، ويكأنه تجسيد لمقولة الإمام على بن أبى طالب كرَّم الله وجهه ورضى عنه وأرضاه: ارتفع لتَرَى لا لتُرى!! وصحيح أنه يوجه كلامه إلىَّ، ويستمع مشكورًا لكلامي، ولكن هناك لغة صامتة لا تبوح بها الشفاه، فهو يزن من يجالسه بميزان خاص جدًا، ويتفحص الأرواح بفراسة وذكاء شديدين، يُقَيِّم ما أتفوه به تقييما تختلط فيه خبرة سنين، وعلم غزير، وهدوء الذاكرين، وكَشْف العُبَّاد، ولقد كان شغلى الشاغل طوال لقائى مع فضيلته ما رُويَ عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، قال: اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله.
ولا أعرف لماذا قفزت إلى عقلى وأنا الجالس أمامه، وما زالت بركة يده لم تبرح يدى، ومع فارق التشبيه تمامًا من قريب أو من بعيد، قصة تلك الفتاة الألمانية التى ساقتها الأقدار يومًا للوقوف على مقربة من الزعيم الألمانى أدولف هتلر فى أحد التجمعات الجماهيرية، فما كان منه إلا أن مد يده فصافحها من بين الجموع، ثم استكمل مسيرته، وربما لم يتذكر هتلر هذا المشهد بالمرة، باعتبارها مجرد شخص عادى التقاه، ولكنه ودون أن يدرى قد ألقى على كاهلها حِمْلا كبيرا، إذ قررت هى منذئذ ألَّا تصافح أحدًا قط طيلة حياتها، حتى تحتفظ بهكذا ذكرى، وهكذا شرف رفيع!!
هذا عن هتلر كزعيم ألمانى فى نظر الألمان، فما بالى أنا بالإمام الأكبر، شيخ الأزهر، الطيب، الطهور، رمز الإسلام فى العالم بأسره، وقد صافحني؟ أوَلَسْتُ أنا الأوْلَى بأن أمتنع منذئذ عن مصافحة الأنام؟
قرار ليس باليسير.. لم أحسم أمرى بشأنه بعد!!
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية