تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
«عصا» السنوار .. و«مُسَيَّرة» إسرائيل!
جاء المشهد الختامى لحياة الحمساوى يحيى السنوار دراماتيكيًا للغاية؛ لكونه حمل معانٍى رمزية يعجز أعتى الأدباء عن صياغتها، إذا ما أراد تجسيد ذلك النمط الذى يحكم عقل فصيلين متقاتلين منذ نحو 76 عامًا:
أحدهما، مدعوم أيديولوجيا، وتكنولوجيا، وعسكريا، (واستخباراتيًا)، واقتصاديا بواسطة حواضر غربية (راسخة)؛ سبقتنا بأزمنة على دروب (العلم) والتقدم؛ ترى فى هذا الفصيل جزءًا أصيلًا من فسيفساء تكوينها المجتمعى (وإن تظاهرت بعكس ذلك)؛
وثانيهما، فصيل آخر (مقهور) بحق؛ لا تراه هذه الحواضر يستحق، لن أقول الحياة الكريمة، وإنما الحياة (أصلًا)؛ ما جعل هذا الفصيل مضطرًا لامتطاء صهوة (العنترية)، والشوفينية، وإظهار فرط الشجاعة كبديل وحيد لحفظ ماء الوجه بمواجهة عدو متجبِّر!!
فلقد وجد الرجل نفسه جالسًا لا حول له ولا قوة؛ غير قادر بالمرة على تحريك جسده المصاب؛ من بعد أن أجهزت قذيفة دبابة (جبانة) على المبنى الذى تصادف وجوده بداخله؛ فأفرغته من محتواه إلا من بعض كراسي، وحطام مبانٍ
.. والسنوار!! شأنه فى ذلك شأن غزة نفسها: حطام بنايات؛ وسَقْط متاع متبعثر؛ وأشلاء بشر ما بين صرعى وجرحي؛ وكثير من بشر عُزَّل أنهكهم الترحال فى دوائر مفرغة؛ تفاديًا لقذائف (جبانة) تلو قذائف على مدى عام كامل!!
وبالرغم من وجود حشد من جنود إسرائيليين، (أشاوس)، مدربين، ومدججين بأعتى أنواع السلاح وأفخم العتاد؛ يُطَوِّقون مبنى السنوار من كل جانب؛ تحت حماية دبابات (الميركافا) المحصنة العفية التى لا يُشَق لها بالمعارك غبار ( وتعنى الكلمة بالعبرية: عربات تجرها الدواب)؛ لم يستطع القائد الإسرائيلى (المغوار) بالموقع أن يتخلى عن موروث الخوف المستشرى بدمائه ودماء أجداده؛ فبدلًا من أن يُصدر لجنوده أمرًا عسكريًا (بديهيًا فى مثل هكذا موقف) باقتحام المبنى بحثًا عن (الهدف)، إذا به يستعيض عن ذلك، (حَذَر الموت)، بمُسَيَّرة (دورون)؛ يتلصص من خلالها عما يدور بداخل المبني؛ يُدخلها عبر النافذة المدمرة بالبناية المحطمة بحذر وبطء لا يتناسبان؛ يتلفت بواسطتها ذات اليمين وذات اليسار كمثل لصٍ رعديد!!
فلما لمح (عبر كاميراتها) شخصًا جالسًا (السنوار) على أحد الكراسي، ارتبك (المغوار) أيما ارتباك، فيما انعكس جليّا أمام أعيننا على المُسَيَّرة؛ والتى ازدادت حركتها بطئًا وخوفًا بل وارتباكًا.. وسلامًا إذن على تدريبات مغاوير إسرائيل على المواجهات؛ فحتى الآلة الإليكترونية سرعان ما اكتسبت فى أياديهم خصال الجبناء!!
ثم ليتفاعل المشهد الدرامى أكثر فأكثر، حين يقرر (المغوار) الإسرائيلى مزيدًا من الاقتراب عن بعدٍ بآلته التصويرية خوف السنوار المُقعَد كرهًا؛ شأنه شأن الجن مع نبى الله سليمان (مع فارق التشبيه)؛ وذلك حينما ارتابوا فى أمر موته عليه السلام؛ غير أن تراكمات (الخوف) منه حالت دون محاولتهم التأكد فعليًا من موته بأنفسهم؛ يقتربون منه فى شك وارتياب دون القدرة على مواجهته..
وهكذا .. إلى أن سقطت منسأته (أى عصاه)؛ فكان أن دلتهم بالفعل على موته!! ولكن منسأة السنوار جاءت مختلفة فى غمار ذلك المشهد؛ إذ إنها دلت هنا على بقائه على قيد الحياة وليس الموت؛ من بعد أن قرر الرجل تحويلها إلى سلاح، وما هى بسلاح؛ وهو الذى كان بإمكانه، وفى ظل ما أحاط به من ظروف إصابة أعجزته تمامًا، أن يستسلم؛ وكان له حينئذ كل العذر!!
ولكن السنوار أبى أن يفعل؛ بل قرر أن يهاجم حتى آخر لحظة؛ وبآخر ما لديه من (بقايا) سلاح متاح.. عصاه؛ يستجمع بقايا قواه وهو الجريح؛ فيرفع العصا شيئا فشيئًا متحفزًا؛ فيقذف بها تلقاء المُسَيَّرة؛ لعله يسقطها!!
أما المضحك، فهو أن المُسَيَّرة، أو قل من يقف وراء تحريكها عن بُعدٍ، هو الذى خاف وليس السنوار!! إذ وجدنا الذى يحركها يشيح بها بعيدًا وبسرعة؛ حين وجد العصا تطيح فى الهواء باتجاهها!! فلما سقطت المنسأة على الأرض؛ وتأكد هو ومن معه من زوال (خطرها)، تشجَّع، كمثل ما فعل جن سليمان، فعاود تحريك آلته والاقتراب؛ وهو الذى لا يعلم أنه راح يرسم بهذا التصرف ملامح مشهد هزلى قلَّما يجود به التاريخ العسكري؛ إذ من ذا الذى كان يجب أن يتملك الخوف منه فى تلك اللحظة: هل تراه الأعزل الجريح الذى لايملك سوى عصاه؛ أم ذلك السليم المعافى المدجج بأعتى السلاح؟!
ولكن هل تُرى السنوار كان يأمل فى أن ينال من المُسيَّرة فعلًا بعصاه تلك؛ أم تُراها كانت أمانيّ؟ وحتى إن هو فعلها ونجح فى إسقاطها، فهل تراه كان يحدوه الأمل فى النجاة ممن هم وقوف وراء تحريكها؟
تلك هى المسألة:
فمنسأة السنوار الطائحة بالهواء هى رمز لرشقات صواريخ المقاومة (المفعمة بالأمل) المُحَلِّقة فى أجواء إسرائيل بين الحين والحين؛ تتطلع إلى تحقيق إصابة أهداف جوهرية؛ وما هى ببالغة أطياف هذه الأهداف إلا بشق الأنفس؛ ذلك لأن التكنولوجيا التى تتحصن (بانتظارها) فى المقابل تتفوق بجدارة؛ تمامًا مثلما تفوقت المُسَّيرة فى مواجهة العصا البدائية حين طاحت فى فضاء الغرفة!!
صحيح أن نيات السنوار، وجميع من يسيرون على دربه من قبل ومن بعد، كانت وما زالت وستظل تستهدف مقاومة العدو؛ إلا أن ما لا يستوعبه المقاومون (حتى هذه اللحظة) هو أن البَوْن شاسع بالفعل بين إمكاناتهم وإمكانات ذلك العدو المنظم، المخادع، الماكر، (المدعوم)،
مهما عظمت نيات المقاومين وحماستهم الوطنية!! وهذه ليست دعوة من جانبى للاستسلام أو التخلى عن السلاح؛ وإنما هى دعوة (صادقة) لإعمال قليل من المنطق فى حُسن اختيار (التوقيت)؛ إذ ما إن تمتلك المقاومة (ما تيسَّر) من أسلحة ومركبات (تحسبها) ذات بأس تكنولوجى شديد، حتى نجدها (تتسرع) فى الانقضاض؛ أملًا فى تحقيق نصر مبين؛ وحمل أكاليل الغار؛ فتكون النتيجة مأساوية للأسف (فى كل مرة) ومحبِطة، ليس فقط لحاملى رايات المقاومة الحاليين، وإنما لأحلام أجيال وأجيال كاملة من بعدهم؛ وهم يشهدون فناء شعوب ومدن وأرواح آلاف من الأبرياء وفى مقدمتهم (أطفال)!!
وكم كان الروائى والأديب الروسى (الراحل) ماكسيم جوركى عبقريًا حكيمًا بحق حين أطلق مقولته الشهيرة: (عندما يكون معك خمس رصاصات، لا تفتعل ست مشكلات)!!
(الله يرحمه)!!
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية